رواية دموع مؤجلة واحتضان اخير الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم شمس حسين


 رواية دموع مؤجلة واحتضان اخير الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم شمس حسين


«أحمد نجم»

"ليه؟ ليه عملتي كده ليه؟!"، صرخت بيها وأنا بخبط إيدي جامد في الحيطة، الألم اللي حسيت بيه مكنش في إيدي، كان في قلبي، مسكت الموبايل ورنيت عليها بسرعة، ورنيت....مرة، واتنين، وتلاتة... بس كانت الإجابة: "عفوًا، الهاتف الذي طلبته مغلق حالياً..."، رميت الموبايل على السرير وأنا بحاول أتنفس، فجأة كسرت كل حاجة حواليا بدون إرادة، الصوت كان عالي كفاية إنه يجيب أشرف، دخل الأوضة بسرعة، وشه متوتر، قرب مني وهو بيقول: "في أي؟!"، مردتش عليه و فجأة اخدت الموبايل و مفاتيح العربية و نزلت بسرعة، كان لازم اروح لها، وصلت عند بيتها، نزلت بسرعة، حاولت أسيطر على نفسي، على غضبي، على خوفي، على كل حاجة جوايا، أول ما دخلت من باب العمارة، طلعت على شقتها، وقفت قدام الباب، خبطت، مفيش رد، خبطت تاني، وتالت، وعاشر، بس مفيش رد، حاولت أسمع أي حركة جوا، مفيش، البيت كله كان فاضي، نزلت بسرعة،






 بصيت حواليا، يمكن ألاقي أي حد من الجيران، أسأله عليهم، بس المكان كان هادي بطريقة مستفزة، مسكت مفاتيحي وركبت العربية، الموبايل كان بيرن جنبي، بصيت عليه لقيته أشرف، رديت بصوت مخنوق، "ألو؟"، صوت أشرف كان كله قلق: "إنت فين؟"، "شمس مشيت..."، "راحت فين يعني؟"، "معرفش..."، سكت لحظة، وكملت وأنا بحاول أستوعب اللي بيحصل: "ماما هي  اللي طلبت منها تبعد عني..."، أشرف سكت شوية، وبعدها قال بسرعة: "طيب تعالي على البيت، عمي أيمن هنا"، قفلت معاه و بعد وقت، رجعت على البيت، كنت داخل وانا حاسس إني مهزوم حرفياً من اللي بيحصل، قعدت جنب أشرف و انا شايف كل حاجة سودة في عيني، عمي أيمن بص لي بقلق، وقال بهدوء: "إيه اللي حصل؟"، طلّعت الموبايل من جيبي، فتحته، ودوست على الريكورد، و سمعتهم اللي شمس قالته، كانوا مصدومين زي بالظبط، عمي أيمن قال:"مكنتش متوقع أن شمس تستلم بسهولة كدا"، اشرف رد عليه و هو باين عليه الحزن وقال:" شمس مكانتش هتقدر تعمل اكتر من كدا يا عمي.. و كويس أنها عرفت تقول لاحمد الحقيقة قبل ما تمشي.. هي أساساً زمانها منهارة دلوقتي..."، عمي ايمن بص له باستغراب وقال:" إنت قابلت شمس قبل كدا؟"، رد أشرف وقال:" شمس بتتعالج عندي من فترة... تقريباً قبل ما تيجي عندكم الفرع بفترة قصيرة... كان بيواجهاها مشاكل صغيرة مش قادرة تفهمها ولا عارفة تتعامل معاها إزاي... و كنت بحاول معاها نلاقي حل....المشكلة دلوقتي في اللي حصل ده... اكيد هياثر علي نفسيتها بشكل كبير"، أيمن بص لأحمد بحزن علي حالته وقاله: "وأنت كنت فين؟"، "روحت عندها البيت، ملقتهاش، البيت مقفول، ومفيش حد..."، نزلت دماغي بين إيديا وأنا بحاول أسيطر على حالتي، وقلت: "أنا مش عارف أعمل إيه، حقيقي مش عارف"، عمي أيمن خد نفس عميق وقال: "انا كنت جايلك علشان نرمين كلمتني الصبح.... كانت منهارة و طلبت مني اخدك و نروح لها علشان نصلح الوضع بينكم... بس بعد اللي حصل دلوقتي أنا حقيقي مش عارف المفروض تعمل اي..... أنا مش مصدق إن نرمين عملت كدا..."، بصيت لعمي أيمن، وقلت له: "بلغ أمي يا عمي إني هرجع البيت بليل و أنك كلمتني و انا فهمت الوضع وراجع... و متجبلهاش سيرة عن أي حاجة"، أيمن هز راسه بموافقة، وقال: "وانا هحاول أعرف شمس راحت فين".


بليل، رجعت البيت، كنت هادي جدًا... بس هدوء مخيف، فتحت الباب، دخلت، لقيتهم قاعدين... ماما، عمي أيمن، وجيهان، أول ما أمي شافتني، قامت جارية عليا، دموعها كانت سابقة خطواتها، ولما وقفت قدامي، مدّت إيديها علشان تحضني، بس أنا فضلت واقف مكاني، وقالت بنبرة باكية: "أحمد...!"، أنا كنت عارف إنها مش قادرة على بعدي، وأنا كمان كنت مفتقدها، بس... الوجع اللي سببتهولي كان أكبر من أي اشتياق، قعدت، ماما كانت أول واحدة تتكلم، وقالت بصوت كله رجاء: "آخرة البعد ده إيه يا أحمد؟ مش قادره استحمل غيابك اكتر من كدا، أنا عايزاك ترجع، عايزاك تبقى معايا، مش عايزاك تفضل زعلان مني..."، بصّيت لها بهدوء... وقلت: "اطمني يا ماما، أنا خلاص هرجع... وهعملك كل اللي انتي عايزاه"، عمي أيمن عينه كانت مترقبة، كان واضح إنه مش فاهم أنا بفكر في إيه، ماما لمعت عيونها بفرحة حقيقية، مكانتش مصدقة اللي سمعته، وطبعا جيهان كانت أسعد واحدة في القعدة دي، أنا كملت بنفس البرود اللي كنت حاسه وقلت: "خلاص يا ماما، البعد مبقاش ليه لازمة، واللي كنتي عايزاه مشي، اطمني... هي اللي رفضتني، رفضت وجودي في حياتها، وأنا جايلك اهو برجلي، بقولك موافق على كل اللي انتي عايزاه... أتمنى تكوني مبسوطة"، ماما كانت فرحانة، ودموعها اتحولت لدموع ارتياح، وجيهان كانت قاعدة بتبتسم بثقة، ومن غير ما أقول كلمة زيادة، قومت طلعت على أوضتي، سيبتهم كلهم تحت نظرات متباينة... عمي ايمن طلع ورايا، دخل و قفل الباب وراه، وقال:" اي اللي انت عملته ده يا أحمد"، قلت له بهدوء: "عملت الصح يا عمي... أولا شمس عمرها ما هتوافق تكون معايا طول ما ماما رافضة، و مش مجرد رفض و بس شمس عايزة ماما تكون متقبلة وجوده و متحسش أنها مغصوبة، و ماما عمرها ما هتوافق علي شمس غير لما جيهان تبان علي حقيقتها قدامها، وده مش هيحصل غير لما أوافق علي اللي هما عايزينه".







عدي أسبوعين... الاسبوعين دول حسيت و كأنهم عمر كامل، الايام كلها كانت شبه بعضها، كل يوم أصحى أروح الشغل، أدفن نفسي وسط الورق، وأرجع البيت اخر الليل، وأطلع أوضتي، أقفل الباب على نفسي، وأحاول أنام، بس صورتها مكانتش بتفارق خيالي.....كل يوم، قبل ما أروح الشغل، كنت بروح أقف قدام بيتها، يمكن تظهر، يمكن أشوفها حتى من بعيد، يمكن أشوف حد من أهلها وأسأل عنها، بس مكنش في أي أثر لها، أما ماما بقي فكانت بتحاول ترجعني زي الأول و كأن مفيش حاجة حصلت، بس أنا مكنتش بديها أي فرصة، كل ما تحاول تقعد معايا، ألاقي نفسي بقوم، بقول أي كلمة وخلاص وأطلع أوضتي، كنت مستنيها تيجي وتعترف لي بكل حاجة، كنت مستنيها تحس بيا، تحس قد إيه أنا مدمر، قد إيه اللي عملته معايا وجعني، كنت مستني إنها ترجع في كلامها، تقول لي إنها غلطت، تقول لي إن شمس مكنش لازم تخرج من حياتي بالشكل ده، بس ولا اي حاجه من دي حصلت، لحد ما جيت في يوم، بعد ما رجعت من الشغل، ودخلت أوضتي زي العادة، قفلت الباب وقعدت في ضلمة الأوضة، فجأة الباب اتفتح، وماما دخلت، فتحت النور، كانت ملامحها كلها قلق بس بتحاول تبان عادي، قعدت على السرير قدامي، سكتت شوية وبعدين حاولت تتكلم، بس صوتها كان مهزوز، وكأنها بتحاول توازن بين التوتر اللي جواها وبين الهدوء اللي عايزة تبينه لي، وفجأة قالت: "اي مالك يا أحمد؟ ليه مش بتقعد معانا؟ ليه سايبني لوحدي؟ رجعت البيت، بس لسه بعيد عني، مش بتتكلم معايا، حتى مش بتاكل ولا تشرب اي حاجة في البيت، بقالك أسبوعين مطفي وحزين، وأنا مش متعوده إني اشوفك كده"، بصيت لها وسكت، وبعدين سألتها بهدوء: "يهمك يعني إني مكنش حزين؟"، قالت بسرعة وبدون تردد: "طبعًا يهمني، إنت ابني، وروحي، إزاي تسألني سؤال زي ده؟"، ضحكت ضحكة مالهاش أي روح، وقلت لها: "أومال عملتي كده ليه؟"، سكتت، التوتر اللي كان في صوتها زاد، كانت بتدور على أي كلام تقوله، أي مبرر، أي حاجة تهرب بيها من المواجهة دي، قلت لها بهدوء: "طيب يا ماما، أنا عملت اللي إنتي عايزاه، المهم إنك تكوني مبسوطه"، سكت شوية و بعدين قلت: "أنا مستغرب والله يا ماما..  أي؟ كنتي فاكرة إني هبقى سعيد؟ إني هبقى مبسوط مع واحدة مش بحبها؟ إني هفرح وأنا البنت الوحيدة اللي حبيتها في حياتي مشيت من غير ما حتى أعرف السبب؟ كنتي فاكرة إني هعدي كل ده بالساهل؟"، شفتها وهي بتحاول تهرب من نظرتي، بتحاول تتكلم، بس كل كلمة كانت بتطلع منها كانت أضعف من اللي قبلها، فجأة قالت بسرعة: "أنا كنت عايزة مصلحتك، جيهان بتحبك، وإنت هتحبها مع الوقت"، ضحكت تاني بس بوجع، وقلت: "جيهان... جيهان وبس، طول عمرك جيهان رقم واحد عندك، وأنا ونورين رقم اتنين، ويمكن حتى مش في القائمة، أنا مش بقول لك متحبيهاش، ولا حتى متخافيش عليها، بس إنتي خفتي عليها على حسابي… حطيتيني في كفة، وهي في كفة، ورجحتي كفتها من غير حتى ما تفكري"، كنت بتكلم بهدوء، بس كل كلمة كانت طالعة بوجع، وهي كانت قاعدة بتسمعني، بتحاول تقولي إنها بتحبني، وإنها معملتش كده عشان تجرحني، بس كنت شايف إنها حتى مش مقتنعة بكلامها، وفجأة، كأنها عايزة تهرب من الموضوع كله، قالت بسرعة: "إنت بس علشان لسه الموضوع جديد عليك، بكرة تنسى شمس، وهتبقى مبسوط مع جيهان، صدقني، بص... أنا...أنا هكلم رامي يبعت مهندس يظبط الجزء الخاص بتاعك هنا، و.. وهخلي...جيهان تتفق معاه على كل التفاصيل، الحل الوحيد إن الفرح يكون بسرعة، وصدقني، جيهان هتنسيك كل حاجة في المستقبل"، هنا، حسيت بصدمة من ردة فعلها، بصيت لها، وقررت أنفذ خطتي، وقلت بثبات: "متتعبيش نفسك يا ماما، إحنا أصلاً مش هنقعد هنا"، شفت الصدمة في عنيها، كان واضح إنها متوقعتش الكلام ده، وقالت: "يعني هتاخد بيت تاني؟ ماشي، مفيش مشكلة، اختار المكان اللي إنت عايزه، المهندس يجهزهولك"، بصيت لها بحدة، وقولت بكل هدوء: "لا يا ماما، جيهان قررت إننا نعيش بره، في كندا، ومش هنرجع مصر، هي عايزة تكمل هناك، وأنا وافقت... انا قلت دي حاجة هتفرحك"، للحظة، حسيت إن الدنيا وقفت، مامت وشها اتغير، عنيها وسعت، وقامت بسرعة من على السرير وهي بتقول بانهيار: "إزاي يعني؟! وتسيبني؟! لأ، مستحيل!"، خرجت برا الأوضة وهي بتنادي جيهان، وأنا طلعت وراها، جيهان خرجت من اوضتها، و ماما واجهتها باللي قولته، جيهان كانت في اللحظة دي واقفة متوترة، كان واضح إنها متوقعتش إن الموضوع يتفتح دلوقتي، بس بسرعة تماسكت وقالت بصوت هادي: "أيوه يا خالتو، ااا... انا اتكلمت أنا وأحمد و عرضت عليه الفكرة و هو وافق... و بعدين متقلقيش خالص.. أنا اتفقت معاها أن إحنا هنقضي الإجازات كلها هنا"، ماما صوتها علي، كانت عصبية لأول مرة من زمان و حسيت إنها فعلاً مش قادرة تتحكم في نفسها وقالت: "بس ده مكانش اتفاقنا! أنا وافقت على كل ده على أساس إن أحمد هيكون هنا، جنبي!"، حسيت أن هي دي اللحظة المناسبة، بصيت لجيهان، وبعدين لأمي، وقلت بهدوء: "ايوااا.. اتفاق.... ممكن أعرف اتفقتوا عليا إزاي؟"، الاتنين سكتوا، بصوا لبعض، والتوتر كان واضح عليهم، ماما صوتها بدأ يرتعش، دموعها نزلت، ودخلت الاوضة، وقعدت على الكرسي، وقالت بصوت مخنوق: "أنا هقولك كل اللي حصل"، بدأت تحكي بصوت مهزوز من البكا: "أنا… أنا رحت لشمس، طلبت منها تبعد عنك… أنا… أنا اللي خليتها تسيبك، كنت فاكرة إن ده الصح، كنت عايزة مصلحتكم انتوا الاتنين… جيهان قالت لي على مشكلة الميراث، و قالت لي هي بتحبك قد اي و مش هتقدر تعيش مع غيرك...و انا وافقت علشان هي فعلا بتحبك... و علشان هتكون جنبي و معايا"، سكتت، وبدأت تبكي: "سامحني، يا أحمد… أنا عارفة إنك مش هتسامحني بعد اللي قولته... والله انا كان هدفي مصلحتكم، كنت متأكدة إن جيهان هتعرف تخليك تنسي شمس… بس مكنتش أعرف إنها هتطلب منك تعيشوا برا"، بصيت لها بوجع عميق وقلت: "اسامحك؟ بالبساطة دي؟ طيب أنا و عادي... هي ... ذنبها إيه؟ إنتي متعرفيش هي عانت قد إيه في حياتها، أنا كنت الحاجة الوحيدة اللي كانت عايزاها من الدنيا، وهي سابتني علشانك، علشان ما تقفش قصادك، وأنا… أنا اللي فضلت هنا بتعذب، وإنتي كل اللي يهمك إن جيهان تكون كويسة، وأكون جنبك!"، خدت نفس عميق، وبصيت لهم هما الاتنين، وبصوت مليان حزن، قلت آخر كلمة: "لو شمس ضاعت مني... عمري ما هقدر اسامحك".







عدى أسبوعين تانيين، ومفيش أي خبر عن شمس ولا عن مامتها، أما جيهان فسافرت بعد ما ماما طلبت منها كده، علشان حست إن خلاص خطتها فشلت، ماما في الاسبوعين دول كانت بتحاول تصلح كل حاجة، حتي نزلت اختي نورين من دبي، بس كل محاولاتهم في ان حالتي تتحسن، فشلت... و اتاكدت ماما وقتها إني مش هرجع زي الاول غير أما الاقي شمس، علشان كدا، في يوم هي طلبت من عمي ايمن ياخدها و يروحوا البيت عند شمس، يمكن تلاقي حل، و فعلاً في اليوم اللي راحت فيه، اتفاجئت ب والدة شمس و هي طالعة علي السلم، و معها شنطة، تقريباً كانت بعيد هي كمان، و بطلب من شمس علشان محدش يقدر يوصل لها، ماما و عمي أيمن اتكلموا مع والدة شمس و فهموها كل اللي حصل، و حاولت ماما علي قدر ما تقدر تخلي والدة شمس تثق فيها، وتصدق انها فعلا عايزة شمس، و مش كارهه وجودها معايا، و اعترفت بغلطتها، و بعد محاولات ماما و مساعدة عمي أيمن في إقناع طنط أمل، وافقت في الآخر تقول مكان شمس فين و كتبت لهم العنوان في ورقة، في اليوم ده مكنتش لسه اعرف اي حاجة، كنت في الشركة، و لقيت ماما داخلة مكتبي علي غير العادة مع عمي ايمن، وبلغوني وقتها بكل اللي حصل، وقتها مكنتش مصدق إن خلاص كل حاجة قربت تتحل وشمس أخيراً لقيتها.


«شمس»

عدّى شهر… شهر كامل وأنا هنا في الفيوم، بعيد عن كل حاجة، وبعيد عن ماما لأول مرة في حياتي، بعيد عن كل اللي حصل، اول ما وصلت، كان الوضع صعب جدًا، كنت حاسة بغربة، وحشة، وحزن مالوش آخر، بس واحدة واحدة، لقيت نفسي في مكان هادي بعيد عن دوشة القاهرة بكل اللي فيها، وبدأت اتعود علي الهروب اللي أنا فيه، كنت بحاول أكون قوية، و احسن، و ده بمساعدة خالتو نداء.... خالتو نداء كانت زي طوق نجاة في وسط بحر ماليش فيه مراكب، مكنتش بتكلمني كتير عن اللي حصل، ولا كانت بتجبرني أتكلم، بس كانت دايمًا موجودة… بتشجعني، بتشغلني في حاجات تلهيني، بتخليني أحس إن ليا مكان هنا.


خالتو عندها مزرعة صغيرة… فيها كل حاجة، خضار، فواكه، حتى شوية مواشي، و طيور، كنت حاسة نفسي لأول مرة جزء من الطبيعة دي، أصحى بدري معاها على صوت العصافير، أخرج أمشي وسط الخضرة، أشوف الدنيا واسعة وهادية، وكأنها بتاخدني في حضنها وتطبطب عليا، علشان كدا كنت بحس إن الهروب هنا مش مؤذي، ومش بيكسرني أكتر، كنت بحاول أعيش يومي عادي، أساعد خالتي في المزرعة، أقطف الطماطم، أروي الزرع، وأحيانًا أقعد على المصطبة قدام البيت وأتفرج على الغروب… بس الحقيقة، مهما حاولت، كان في حاجة واحدة بس مش بتختفي من دماغي… أحمد، صورته مكنتش بتفارقني، كلامه، ضحكته، حتى نبرة صوته اللي كان بيكلمني بيها و كنت بحس إنها بتخصني لوحدي، بس كنت كل مرة أسرح وأفتكره، بسرعة أقطع التفكير وأقول لنفسي: "كفاية… لازم أنسى"، لحد ما اليوم ده جه…







الشمس كانت بتغيب، لونها الدهبي عاكس على الزرع، والهواء سايق النسيم بين الأغصان، بيداعب وشي وأنا واقفة وسط المزرعة، ماسكة خرطوم المية وبروي الخضار، كنت لابسة جيبة طويلة من قماش خفيف ممزوجه بألوان كتيرة، وبلوزة بيضا واسعة بأكمام طويلة متنية عند الكوع، وطرحة مربوطة ببساطة على راسي، وبعض من خصل شعري طايرة بتتحرك مع الهوا.......

"عم محمد! خد بالك من شتلات الطماطم، أنا حاسة إن الارض لسه ناشفة"، رفعت صوتي وأنا ببص على عم محمد، الراجل الكبير اللي بيساعد خالتي في المزرعة، رفع راسه ليّا، مسح جبينه بإيده الخشنة، وقال بابتسامة واسعة وهو ماسك المجرفة: "بسم الله ما شاء الله... اللي يشوفك يا بشمهندسة يقول بقالك زمن هنا... بتلقطي المعلومة بسرعة!"، ضحكت وأنا برش الأرض بالخرطوم، وقلت بفخر مصطنع: "أيوا طبعًا... أنا بقيت فلاحة أصيلة! يلا خلّص اللي في إيدك علشان نروح نشوف صوبة الخيار… عايزة أقطف كام حبة علشان نعمل سلطة على العشا بالليل"، خلصت كلامي و مشيت بعيد بالخرطوم علشان اسقي باقي الزرع، وانا واقفة فجأة حسيت بحاجة… كأن في حد واقف بيراقبني، إحساس غريب، وكأن الهوى تقل في اللحظة دي بس، لفيت ببطء، والمياة اللي كانت نازلة من الخرطوم جت على إيدي، بس وقتها نسيت كل حاجة… أحمد..... كان واقف عند طرف المزرعة، بين الشجر، عيونه سابحة فيا، كأنه كان مستنيني من سنين، مش من شهر، كان بيقرب بخطوات ثابتة تجاهي، وانا واقفة مش مصدقة، كل أما يقرب ملامحه بتبان اكتر، كانت متغيرة، تعبان، دقنه نابتة شوية، عيونه فيها سهر من أيام طويلة وكأن النوم فارقه من وقت ما مشيت، كان لابس قميص كحلي مفتوح زراير من فوق، وبنطلون جينز، أما نظرته… فكانت زي ما هي، مليانة بيا، اول ما وقف قدامي، إيدي اتراخت، والخرطوم وقع على الأرض، والمياة بدأت تبلل الطين تحت رجلي، لكني مكنتش حاسة بأي حاجة غير بنظراته، "إنت…" خرجت الكلمة مني ضعيفة، وأنا مش مصدقة إنه هنا، اخد نفس عميق و كأنه كان حابسه من زمان و قال بنبرة كلها شوق مكبوت: "أخيراً....لقيتك"، صوته كان واطي، لكنه هزني من جوا، حاولت ألمّ شتات نفسي، قلبي كان بيدق بسرعة، والهوى بقى تقيل حوالينا، وقلت بتوتر: "إنت... إنت جيت هنا إزاي؟"، كان واقف بيبصلي ومش بيبعد عينه عني، ساكت ومش بيتكلم و علي وشه ابتسامة عريضة، بس في حاجة مختلفة فيها… فيها وجع، فيها لهفة، فيها حاجة توجع القلب، غمضت عيني للحظة، وكأني بقاوم رغبة إني أنهار قدامه، بس قبل ما أتكلم تاني، فجأة أخدت بالي… المياة!، فتحت عيني بسرعة، وبصيت حوالينا، الدنيا غرقت تمامًا! الطين بقى زي البركة، وهدومي كانت غرقانة من تحت، شهقت وقلت بسرعة و انا مخضوضة:" المياة!.... عاجبك كدا؟ الزرع باظ..."، فضل يضحك بصوت عالي عليا، حاولت أتحرك بس رجلي غرزت في الطين، فبصيت له بنظرة استغاثة، ضحك اكتر بصوت عالي وهو بيقول: "تعالي، قبل ما تغرقي أكتر"، مد إيده ناحيتي، وبعد لحظة تردد، مسكتها، شدني بسهولة، ولقيت نفسي قريبة منه جدًا…المسافة بينا بقت صغيرة، بعد لحظات من الصمت، مشيت بسرعة و روحت قفلت الخرطوم و وقفت في وسط المزرعة و اديتله ضهري، جيه ورايا و لف وقف قدامي، كانت عيوني ابتدت تدمع، حاولت اهرب بعيوني بس هو كان بيلحقني بعينه، و فجأة قال:" متحاوليش تهربي.. علشان هجيبك هجيبك"، قلت بسرعة:" هو انت عرفت مكاني هنا إزاي بجد؟"، قالي :" ماما راحت لطنط أمل و طلبت منها العنوان"، قلت له باندهاش:" مامتك!"، قالي :" ايوا ماما...






 ماما قالت لي كل حاجة يا شمس... و صدقيني هي دلوقتي ندمانة... هي عملت كل ده بس علشان جيهان كانت ضاغطة عليها... أما هي معندهاش اي مشكلة معاكي صدقيني... هي ندمانة اووي و الله علي اللي عملته معاكي... وحتى دلوقتي جاية معايا علشان تسامحيها"، قلت بسرعة: "اي معاك هنا!"، ابستم وقالي:" مش بس ماما... دي كمان مامتك... عمي أيمن... و صالح... رنا ....و كمان أشرف.... كل دول جايين علشان ترجعي معانا"، بصيت له بفرحة و قلت:" بجد كلهم هنا... هما فين؟"، كنت بلف علشان اروح لهم، احمد وقفني وقال:" استني....مش هتمشي الا لما نخلص كلامنا"، وقفت مكاني و بصيت له وقلت باستغراب:" كلام اي؟"، رفع حاجبه وقال بثقة:" اولا... مفيش حاجة هتخبيها عني تاني... ثانياً.... هنمشي من هنا و نرجع علي مصر و نجهز للفرح.... ثالثاً.... مفيش هروب تاني من اي حاجة... إحنا مش هنفضل في لعبة القط والفار دي كدا كتير"، رفعت حاجبي باندهاش وقلت بسخرية:" ده مين بقي اللي قرر القرارات دي كلها؟"، ضحك وقال بثقة مستفزة: " أنا.."، قلت له بحده طفيفة:"وانا أي بقي اللي يخليني أسمع كلامك؟"، ابتسامته وسعت، وعينيه لمعت وهو بيقرب أكتر وقال بنبرة كلها تحدي: "علشان إنتي بتحبيني، وأنا بموت فيكي، وخلاص، مفيش وقت للبعد تاني… عايزين نخلص بقى"، اتوردت خدودي، بس رفعت راسي بتحدي، وقلت: "ومين قالك إني بحبك؟ ولا حتى موافقة على الجواز ده؟"، ضحك بخفة، وبصلي بنظرة كلها يقين، وقال: "لهفتك عليا أول ما شفتيني… خدودك اللي احمرّت… ضربات قلبك اللي مسموعة… عيونك اللي متعلقة بيا، كل ده بيقول إنك بتحبيني زي ما بحبك، وبعدين، موافقة مش موافقة، أنا هتجوزك كده كده، لأني بصراحة هموت وأقطف التفاح اللي على خدودك ده"، شهقت وأنا بضربه على كتفه وقلت: "يخرب بيتك!"، وجريت بسرعة وسط الزرع، وانا حاسة بالهوا بيضرب في وشي، وقلبي بيدق بسرعة، مش عارفة من الجري ولا من ضحكتي اللي كانت خارجة مني بجد لأول مرة من زمان، أحمد كان ورايا، صوته بيضحك وهو بينده عليا: "مش هتعرفي تهربي مني، شمس!"، بصيت له بعيون مليانة تحدي، وقلت وأنا بزوّد سرعتي: "نجرب ونشوف!"، فجأة رجلي غرزت شوية في الطين، واتزحلقت، شهقت وكنت هقع، لكن في اللحظة الأخيرة، حسيت بإيده بتسندني، شدني نحوه بقوة، نفسي كان متلخبط، وقلبي بيدق بجنون، حاولت أبعد، لكنه شدد إيده أكتر وهمس بصوت دافي: "مش هسيبك تاني، فاهمة؟"، رفعت عيوني ليه، كنت هتكلم، لكن نظراته كانت قريبة، قريبة أوي، وقلبي خلاص، استسلم للّحظة، الزرع حوالينا كان شاهد، والشمس الغايبة كانت بتوّدعنا بلونها الدهبي، وأنا كنت حاسة لأول مرة... أن أخيراً كل المُر راح، و الجاي كله فرح وبس.

 


نجهز علشان الفرح💃🏻😂

#بارت_39

#حكاوي_ابوية_مُره

#دراما_نفسية

#دراما_اجتماعية


               الفصل الاربعون من هنا 

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا    

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×