رواية فراشة المقبرة الفصل الثالث عشر 13 بقلم اسماعيل موسي
فراشة المقبرة - 13
(تسريع للأحداث)
مرت السنوات على زهرة، لكنها لم تمر عليها كغيرها من الفتيات.
لم تكن أيامها مليئة بالضحك والمرح كما كان ينبغي لها، بل كانت أشبه بحقل ألغام، تخطو فيه بحذر، تتعلم كيف تبقى قوية، كيف تسيطر على مشاعرها، وكيف تخفي حقيقتها خلف قناع من الهدوء.
لم تكن مجرد طفلة عادية تنضج، بل كانت فتاة تتشكل من الألم، تُصقل بالصدمات، تُعاد صياغتها من جديد مع كل ذكرى تجرح صدرها كل ليلة. كانت المدرسة مكانًا تعلمت فيه الكثير، لكنها لم تكن تتعلم فقط من الكتب، بل من الوجوه، من العيون، من نبرات الأصوات التي تحمل في طياتها الكذب، الحقد، والضعف.
منذ اللحظة التي دخلت فيها المدرسة، أدركت زهرة أن الذكاء قد يكون أقوى من القوة البدنية.
كانت تعرف أنها لن تستطيع مواجهة العالم بقبضاتها وحدها، لذلك صنعت من عقلها سلاحًا لا يمكن هزيمته.
تفوقت في الرياضيات والعلوم، تفوقت في الأدب والتاريخ، لكنها لم تتفوق من أجل التفوق فقط، بل لأنها رأت في المعرفة وسيلة للسيطرة، طريقة لفهم العالم أكثر، لمعرفة نقاط ضعف من يقفون أمامها. كانت دراستها أشبه بمعركة تخوضها بصمت، وكانت تنتصر في كل اختبار، في كل مناظرة، في كل مرة ترفع يدها للإجابة، بينما الآخرون يحدقون فيها بدهشة.
كان الأساتذة ينظرون إليها بإعجاب، لكنهم كانوا يخشون هدوءها أيضًا. كانوا يعرفون أنها ليست طالبة عادية، كانت شيئًا آخر، شيئًا مختلفًا، وكأنها تحمل في عينيها سرًا دفينًا، نارًا لا تنطفئ.
بدأ جسدها يتغير أكثر، وأصبحت نظرات من حولها تختلف. لم تعد تلك الطفلة الهشة، بل أصبحت فتاة يلاحظها الجميع، لكن لم يكن هناك من يجرؤ على الاقتراب منها بسهولة. كانت عيناها تحملان نظرة لا يفهمها الكثيرون، خليطًا من القوة والغموض، كأنها كانت دائمًا تفكر في شيء آخر، شيء أبعد من مجرد المدرسة أو الحياة اليومية.
تعلمت كيف تتحدث بثقة، كيف تحرك يديها عندما تتكلم، كيف تستخدم نظراتها لإرباك من أمامها، كيف تجعل الآخرين يرون فيها تلك الهالة التي لم تكن مجرد وهم.
لكن في كل ليلة، عندما تنطفئ الأضواء، كانت تعود إلى وحدتها الحقيقية، إلى عالمها الخاص، حيث لا شيء سوى الذكريات والدموع التي لم يسمح لها أن تسقط أمام أحد. كانت تغلق عينيها، وترى وجوههم، أولئك الذين دمروا حياتها، أولئك الذين قتلوا عائلتها، أولئك الذين جعلوها وحيدة في هذا العالم.
كبرت زهرة، لكن شيئًا واحدًا لم يتغير، لم يهدأ، لم يخمد. الانتقام كان ينمو في صدرها كما ينمو الشوك في الأرض القاحلة. لم يكن مجرد رغبة، لم يكن مجرد فكرة، بل كان جزءًا منها، شيئًا يعيش معها، يتنفس في كل نفس تأخذه.
كل ليلة، كانت تكتب أسماءهم، تعيد رسم وجوههم في عقلها، تتذكر كل تفصيلة، كل كلمة، كل لمحة من الرعب الذي عاشته يوم سُلبت منها عائلتها. لم تكن تعرف متى سيحين الوقت، لكنها كانت تعرف أنه سيحين يومًا ما.
كانت تتعلم كل شيء تحتاجه، كيف تقرأ الناس، كيف تفهم نقاط ضعفهم، كيف تجعلهم يثقون بها، كيف تنتظر اللحظة المناسبة لتضرب.
لم تكن زهرة مجرد فتاة عادية تكبر، بل كانت ظلًا يتحرك في الخفاء، نارًا تنتظر أن تشتعل، فراشة لم تعد تكتفي بالطيران، بل أرادت أن تحترق ليحترق معها كل من أذاها.
لم تعد زهرة تلك الطفلة الضعيفة، لم تعد حتى مجرد فتاة مراهقة تبحث عن مكانها في العالم. أصبحت شيئًا آخر، شيئًا لم يكن له اسم بعد، لكنها كانت تعرف أن اليوم الذي ستُسمّى فيه، سيكون اليوم الذي سيعرف فيه الجميع من تكون زهرة حقًا.
ومع كل فجر جديد، كانت تقترب أكثر من تلك اللحظة.
(تسريع الأحداث)
كانت زهره تسير في أرجاء المنزل جيئة وذهابًا، تشبك أصابعها معًا تارة، وتفرك يديها تارة أخرى، بينما يراقبها والداها بصمت، يتبادلان نظرات تحمل القلق نفسه الذي يسيطر على ابنتهما.
المنزل كان متوترًا بالكامل، وكأن الجدران نفسها تحبس أنفاسها. الهاتف موضوع على الطاولة، والشاشة تضيء كل بضع دقائق بإشعارات لا تهمها. كل ما يهمها الآن هو لحظة الإعلان عن النتيجة، اللحظة التي ستحدد مستقبلها، اللحظة التي قد تقلب عالمها رأسًا على عقب.
كانت نرجس تحاول تهدئتها، تعد لها الشاي وتطلب منها الجلوس، لكن زهرة لم تستطع. عقلها كان ممتلئًا بالأسئلة: هل نجحت؟ هل حصلت على المجموع الذي كانت تحلم به؟ هل ستتمكن من دخول كلية الطب كما كانت تخطط؟ ماذا لو خيّبت ظن الجميع؟
حتى والدها، الذي كان عادة هادئًا ومتماسكًا، كان يمسك بالصحيفة دون أن يقرأ منها كلمة واحدة، فقط يراقب ابنته بين الحين والآخر، ويدعو في داخله أن تكون النتيجة كما تتمنى.
رنّ الهاتف، قفز قلب زهره في صدرها. التفت الجميع نحو الشاشة المضيئة، وظهر على وجهها ارتباك اللحظة الأخيرة، ذلك التردد الذي يصيب الإنسان عندما يكون على وشك معرفة شيء مصيري.
بيدين مرتجفتين، التقطت الهاتف، ضغطت على الشاشة، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تنظر. ثم... صمت.
عيناها توسعتا، شفتيها انفصلتا قليلًا، وكأن عقلها لم يستوعب بعد. للحظة، ظنّ والداها أن هناك خطبًا ما، لكن فجأة، انفجر صوتها بصرخة:
— "لقد حصلت على المجموع المطلوب! يمكنني دخول كلية الطب!"
ارتج المنزل بصدى كلماتها، وتحول التوتر إلى فرح. نرجس احتضنتها بقوة، والدها ضحك بحرارة وهو يربّت على رأسها بفخر. شعرت زهرة وكأنها تطفو في الهواء، كأن حملًا ثقيلًا كان جاثمًا على صدرها قد تلاشى أخيرًا.
— "كنت أعرف أنكِ ستفعلينها!" قالت نرجس، تمسح على وجه ابنتها بيدين مرتجفتين من الفرح.
أما والدها، فهزّ رأسه بابتسامة، وقال بصوته العميق:
— "هذا لم يكن مفاجئًا بالنسبة لي، كنتِ دائمًا مجتهدة، وهذا هو ثمرة تعبكِ."
وسط هذه الفرحة، لم تنسَ زهره رفيقتها القديمة، ميمي، الهرة التي كبرت معها، والتي كانت تشاركها كل لحظاتها منذ طفولتها.
لكن ميمي لم تكن كما كانت من قبل، لم تعد تلك القطة الرشيقة التي تقفز على الأثاث أو تتبعها في كل مكان. كانت الآن عجوزًا، ضعيفة، حركتها أصبحت بطيئة، ونظراتها شاحبة، كأنها تحمل بين عينيها سنوات طويلة من العيش مع عائلة أحبتها بصدق.
كانت زهرة تعلم أن ميمي لم يتبقَ لها الكثير، لكنها كانت ممتنة لأنها ما زالت هنا، ما زالت ترافقها في هذه اللحظة المهمة من حياتها. جلست بجوارها على الأرض، ومدت يدها لتربّت على فروها الناعم.
— "ميمي، لقد نجحت!" همست لها، وكأنها كانت تخبر صديقة عزيزة، كأن ميمي تفهم تمامًا ما تقول.
الهرة العجوز رفعت رأسها قليلًا، وحرّكت ذيلها ببطء، ثم أصدرت مواءً ضعيفًا، لكنه كان كافيًا لزهرة.
— "أعرف أنكِ سعيدة من أجلي."
ورغم ضعفها، ورغم أن جسدها لم يعد بالقوة التي كان عليها، إلا أن ميمي، بطريقتها الخاصة، شاركت زهرة فرحتها، كما فعلت دائمًا.