رواية شقة البخاري الفصل التاسع 9 بقلم اسماعيل موسي


 رواية شقة البخاري الفصل التاسع 9 بقلم اسماعيل موسي


#شقة_البخارى


٩


---


مرت الأيام، وعادت الحياة تأخذ إيقاعها الرتيب داخل الشقة، كأن شيئًا لم يحدث. الصمت عاد يسود أرجاء المكان، لا يُكسره سوى صوت المعلقة وهى تخبط جدران الكوب الزجاجي، أو غناء سماح الخافت وهى تطبخ، أو تقليب صفحات الكتاب حين يعود أحمد من العمل.


أحمد كل يوم بيصحى فى نفس التوقيت، يلبس هدومه بسرعة، ياخد رشفة قهوة على السريع، وينزل.






وعند مدخل العمارة، كان على السعدى، بواب العمارة، زى التمثال، قاعد على دكته الخشبية جنب غرفته، مسبحته فى إيده، ونظراته دايمًا فيها شيء ساكت، كأنه شايف أكتر مما بيحكي. صوته، وهو بيقول "صباح الخير يا أستاذ أحمد"، كان دايمًا بنفس النبرة، كأن الزمن ما بيعديش عليه.


لكن الغريب إن أحمد، لما يرجع من شغله، ما بيلاقيش الراجل. الدكة بتبقى فاضية، والباب الخشبى لغرفته بيكون موارب، والقطّة البيضا نايمة جوه، بتهرش فى فراءها برتابة، كأنها بتعد ساعات الغياب.


حياة الشقة استقرت، أو تظاهرت بالاستقرار. سماح رجعت تكتب خواطرها على الهامش الخلفي من الجريدة، وبتجهز الأكل فى مواعيده، وأحمد بقى يتهرب من قربه للباب المغلق، رغم إنه ساعات كان يحس إنه بيميل ناحيته من غير ما يقصد، كأن جاذبية خفية بترشده ليه.


وفى أحد الأيام، وهو بيقفل باب العمارة وناوى يطلع، شافه…


البخارى.


واقف قدام العمارة، لابس نفس الجلابية، وبيبتسم، ابتسامة مألوفة لكن غريبة، زى صفحة اتقلبت ورجعت بعد ما اتشالت.


قال بهدوء:

– "إزيك يا أحمد؟"


أحمد ما عرفش يرد فورًا، اتفاجئ من وجوده، وسأله: – "إنت جيت هنا إزاي؟ وإزاى عرفت مكانى؟"


البخارى ضحك، ضحكة قصيرة، وقال: – "أنا اللى بلاقى، مش اللى بيتلاقى. بس ما تقلقش، ما جتش أدوّرك على حاجة…

متنساش انا الى بعتك هنا

وصل سلامى لمراتك يا استاذ احمد  


وغاب وسط الزحام، كأن الظهور كان لمهمة محددة… وانتهت.


وقف أحمد مكانه شوية، لسه بيحاول يستوعب اللي حصل. البخاري… جه لحد هنا؟ وقال إنه اللي بعته؟ وبعدين… يوصي بسلام مخصوص لسماح؟


الموضوع كله ما دخلش دماغه بسهولة، وحاجة جواه بدأت تدق، دقة خفيفة بس ملحّة، كأن خيط قديم بيتسحب من نسيج الهدوء المصطنع اللى لفّ حوالين الشقة في الأيام اللي فاتت.


طلع السلم بخطوات بطيئة، والمفتاح اتأخر وهو بيفتح الباب، كأن القفل نفسه مش عايز يتفتح النهاردة. دخل، لقى سماح قاعدة على الأرض، بتفرد غسيل صغير فوق فوطه نظيفة، وشعرها ملموم على جنب، وموسيقى هادية طالعة من الراديو.


بصّ لها، وحس بحاجة غريبة…

زى ما البخاري لسه واقف ورا ضهره، بيتفرج.


قالها بصوت حاول يخليه عادي:

– "قابلت البخاري تحت."


رفعت راسها فورًا، ملامحها اتبدلت للحذر:

– "البخاري؟ هنا؟"


– "آه… ظهر فجأة، وقاللي… أوصّل سلامه ليكي."


سكت. كان منتظر رد فعلها. ملامحها اتجمّدت لثواني، وبعدين ضحكت، ضحكة قصيرة مش من القلب:

– "هو يعرفني؟"


– "ده اللي محيرني… إنتي عمرك شفتيه؟"


– "ولا مرة."


سكت تاني، بس المرة دي كانت السكون أهدأ من اللازم، زى صفحة قبل ما يتكتب فيها شيء تقيل.

أحمد قعد على طرف الكرسي، بصّ لها تاني، وقال:

– "يعني هو لا يعرفك، ولا إنتي تعرفيه… ليه يرسل سلامه دلوقتي؟ ليه دلوقتي بس؟"


ما جاوبتش، ومكانش واضح إذا كانت مش عارفة، ولا مش عايزة تقول.


بصّت للغسيل، وبعدين للراديو، ومدّت إيدها ووطّت الصوت، وقالت وهي بتتجنب عينيه:

– "أوقات الناس بتقول حاجات من غير ما تفكر. يمكن قالها وخلاص…"


لكن أحمد ما اقتنعش.


لأول مرة، بدأ يفكر إن فيه حاجة ما بين البخاري وسماح… مش معرفة، لكن رابط… خيط.

وإن الرقم ٩٩، والباب، والكتاب… مجرد إشارات حوالين شيء أعمق، شيء لسه ما انكشفش.







والليل كان بيبدأ ينزل، ومعاه ظل الباب المغلق بقى أطول شوية من المعتاد.

أحمد ساب السؤال معلق في الهواء، لكن نظرته ما سابتش سماح. كانت بتتظاهر بالهدوء، بترجع تكمّل فرش الغسيل، لكن إيدها ما كانتش ثابتة. كانت بتتحرك بحذر، كأنها بتتجنب حاجة ما.


هو نفسه ما كانش عارف إذا كان بيدوّر على تأكيد لشكه، ولا على نفي. لكن اللحظة كانت غريبة، تقيلة، زى ما الوقت اتباطأ فجأة، وبقى كل شيء حواليهم بيمشي على أطراف أصابعه.


– "عمرك شوفتيه في حِلم؟ أو سمعتي اسمه قبل كده؟"


سماح رفعت عينيها ليه، فيها لمحة ضيق:

– "بقولك معرفوش، لا شفته، ولا سمعت عنه… هو إيه حكاية البخاري دي؟"


وفجأة، وهم الاتنين في وسط الصمت، لمع شيء خفيف… وامضى، زي شرارة صامتة.


أحمد لمح البريق بطرف عينه، لفّ بسرعة ناحيته.


الباب المغلق.


النقوش اللي عليه، اللي كان بيمر جنبها كل يوم ومبيفكرش فيها، لمعت لجزء من الثانية، كأن الضوء تسلل من وراها، أو كأنها تنفّست فجأة… ومجرد ما نطق اسم "البخاري".


وقف أحمد، ببطء، مش مصدق، عينه مثبتة على الخشب المنحوت.


لكن البريق اختفى… كأن مفيش حاجة حصلت.


سماح قالت بتوتر: – "في إيه؟"


– "شفتي؟ الباب… النقوش فيه لمعت… لما قلت اسمه."


– "ما شفتش حاجة."


– "بس أنا شفت… ودي مش أول مرة."


قرب من الباب، حط إيده عليه، حس بحرارة خفيفة، مش سخونة… لكن نبض. زي ما الباب بقى كائن، مستيقظ، ومستني.


رجع يبص لسماح: – "أنا مش مجنون… فيه حاجة حوالين الباب ده، حوالين البخاري، حوالين الرقم ٩٩… وكلهم متصلين، حتى لو إحنا مش فاهمين إزاي."


سماح بَصّت له، ولأول مرة، الخوف ظهر في عينيها بوضوح.


– احمد من فضلك بلاش تدخل فى دوامه ملهاش أصل 


بس أحمد، في اللحظة دي، ما كانش بيتهمها… كان بيدوّر على باب ليفهم.


وحس إن اسم البخاري… مش مجرد اسم بل قصه غير مكتمله

               

               الفصل العاشر من هنا 

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا    

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×