رواية فتيات القصر الفصل العاشر 10 بقلم اسماعيل موسي
#فتيات_القصر
١٠
مع الفجر، وقبل أن تفيق أروقة القصر من سباتها، خرجت راما إلى الحديقة الملكية. برد الصباح كان يلسع أطراف أصابعها، لكن الدفء لم يكن مطلبها. كانت الحديقة في هذا الوقت تنتمي لها وحدها.
أزهار الزنابق البيضاء تفتّحت بخجل، ونسمات خفيفة مرّت بين أغصان الزيزفون، تحمل عبير شجيرات اللافندر المزروعة بمحاذاة السور الجنوبي. الندى يثقل أوراق الدفلى، والورود الإنجليزية ما تزال تحتفظ بحمرة ليلها.
انحنت عند شجرة ياسمين زاحفة، رتبت أغصانها بحذر كي لا تحجب النور عن أزهار الجيرانيوم التي تزين الممر الجانبي. عرفت أن بعض الأزهار عنيدة، تنمو كما تشاء، لكن الحديقة الملكية لا تسمح بالفوضى.
في قلب الممر الأوسط، امتد درب الورد — ممر طويل تصطف على جانبيه شجيرات ورد دمشقى قديم. كان السيد يحب أن يصله عبق الورد من الحديقة إلى نافذة جناحه الشرقي كل صباح. وحرصت راما على ألا يختل هذا الممر.
كانت تعرف من اتجاه الريح، من نضج البتلات، متى تقطف وردة ذابلة، وأين تترك أخرى كى تعزز الرائحة في الطريق.
جثت قرب شجيرة زهر الكاميليا الحمراء. رغم أن السيد يكرهها في الشتاء، أبقتها بعيدة عن الممر، في زاوية لا تطالها نوافذه. تركتها تزهر لنفسها.
على الجهة الأخرى، رتبت زهور النرجس، وشذبت شجيرات الفل، وحرصت أن يتداخل عبيرها مع عبق اللافندر عند طرف الحديقة.
بين الشجيرات، كان ثمة أزهار نادرة: زهور الخشخاش البنفسجي، زهر الأورتنسيا الأزرق، أزهار الدالية المتسلقة، وعناقيد الكرز البرى.
كانت تزيل بعناية ما ذبل، تنفض الندى عن الورود النضرة، وتعيد ترتيب الحصى الأبيض فى الممرات.
وعند منتصف الحديقة… وقفت تتأمل.
الهواء يحمل مزيجًا محسوبًا:
رائحة الورد الدمشقي في المقدمة، يتبعها بخفوت شذا زهر البرتقال، ثم نغمة ناعمة من زهور اللوز في الزاوية الغربية.
هذا الترتيب لم يكن اعتباطيًا. السيد يعرف متى تغيّرت الرائحة في جناحه. وفي كل صباح… تصل الرائحة عبر النافذة الكبيرة المفتوحة على مصراعيها، حيث ستدخل أولا عبير الورد، ثم تتبعها نسمات من الزنابق والياسمين.
وقفت راما على درب الورد، أغمضت عينيها، تنشّقت بعمق، وابتسمت خفية.
المسار كما يجب.
لا شيء يفسد رائحة الطريق إليه.
ثم حملت أدواتها، ولم تنس أن تترك برعم وردة واحدة على الشجيرة الأقرب للدرب.
برعم سيزهر مع غروب هذا اليوم.
السيد سيلاحظ.
وكانت — لسبب لم تعترف به بعد — تريد أن يلاحظ.
#اسماعيل_موسى
حين جلست راما عند طرف الحوض الحجري قرب شجيرات زهر اللوز، كانت يداها مبللتين بماء الندى والتراب. نظرت إلى أصابعها… رقيقة، متشققة من البرد والعمل، لكن لا تزال تطيعها.
ابتسمت ابتسامة شاحبة. في هذه اللحظة، أدركت أن الحديقة لم تكن مجرّد أرضٍ تزرعها… بل صارت وسيلتها للحديث مع السيد، مع القصر، مع ذاتها.
منذ تلك الليلة — ليلة جناحه — وهي تشعر أن نظراته لم تعد كما كانت. أن هناك شيء خفي، يترصّدها خلف الستائر الثقيلة، أو في ظل أغصان الزيزفون.
في البداية، ظنّت أنها ستكرهه.
أنها ستنفذ أوامره برتابة لا تمنحه لذّة السلطة.
لكن الحقيقة كانت أكثر التواءً.
كانت تتحداه… بطريقتها.
ترسل إشارات متوارية بين الزهور.
وضعت زهرة بيضاء صغيرة — زهرة لا مكان لها — قرب النافذة الشرقية.
تعمدت أن تغير ترتيب زهور النرجس لتبدأ بالمتفتّح وتُخفي الذابل في المنتصف، حيث ستذبل الرائحة تدريجًا مع الوقت.
زرعت حزمة زهر برى أزرق قرب زاوية عمياء في الحديقة — حيث تمر الريح، وتحمل شذاها نحو جناحه فقط مع غروب الشمس.
رائحة لا يطلبها، لكنها تبلغه بوجودها.
وفي كل مرة كان يلاحظ.
حين يرسل رسالة بخط يده:
"جميل. عبير مختلف."
كانت تلك الكلمات البسيطة تعني لها أكثر مما تود الاعتراف به.
في أعماقها، كانت راما تمارس لعبة مزدوجة.
جزءٌ منها كان يرفض الخضوع.
يرتب الحديقة بدقّة زائدة، لا حبًا في إرضائه، بل لإثبات قدرتها على السيطرة على مساحة يظنها ملكه.
والجزء الآخر…
كان يريد أن يراها.
أن يلاحظ اختلاف ترتيب الكاميليا، أو مسار الورد، أو رائحة زهر اللوز الذى تسلل لممر لا يُفترض به أن يحمل تلك النغمة.
كان الصراع يؤلمها.
كانت تخشى أن تتحول لعبتها الصغيرة إلى كشفٍ كامل.
أن يفهم السيد مغزى إزاحة غصن ياسمين نحو الجناح الشرقي، أو ترك زهرة ذابلة فى المسار الجنوبى… رسالة تقول:
"أنا هنا.
ولست ملكك."
ومع ذلك، واصلت.
كانت تعتقد أن السيد يراقب من النافذة… وربما لم يفعل.
لكن فكرة أنه قد يلاحظ… تمنحها قُدرة أن تتحمّل سطوته.
وحين انتهت ذلك اليوم من ترتيب الحديقة، وقفت عند درب الورد، تنشقت الهواء.
رائحة خفيفة… تغيّرت.
قليلًا.
تمامًا كما أرادت.
رمشت عينيها نحو النافذة العليا.
لم يُفتح الستار.
ورغم ذلك…
ابتسمت.
اسماعيل موسى
وذات صباح، حين كانت راما تنحني فوق أغصان زهر اللوز، جاء صوت لارينا:
"راما."
استدارت الأخيرة، جفلت قليلًا، لكنها كتمت ارتجافها.
اقتربت لارينا بخطوات رخيمة، تحمل دفترًا صغيرًا بجلد أخضر.
أمعنت النظر في الحديقة بعين خبيرة، كمن يعاين لوحة ويدرك خباياها.
"حديقتكِ هذه… جميلة كما هي العادة. لكن…"
وقفت قرب مسار الورد، شمت الرائحة، ثم ابتسمت ابتسامة عابثة:
"أظن أن السيد سيُحب إن أُضيف القليل من زهر البنفسج الليلكي عند المنعطف المؤدي إلى الرواق الغربي. اجعليه لا يطغى على عبير الورد… بل يهمس من بعيد."
ثم أغلقت دفترها.
"وبعد أن تنتهي، عليكِ بمعاينة أقمشة الردهة الشمالية. هناك ستائر تحتاج تنظيفًا. الخدم أخطأوا في ترتيبها. وأنت… دقيقة بما يكفي لتصلحي الأمر."
راما انحنت بخفة.
"أوامركِ آنسة لارينا."
لكن في قلبها، كانت نار صامتة تشتعل.
ليس في العمل — بل في إدراكها أن لارينا لم تكن تصدر أوامر عادية.
بل تختبر قدرتها على التحمل.
تكدس فوقها الأعمال، وتنتظر سقوطها.
أرسلتها أيضًا بعد الظهيرة لتفقد أواني الشاي في مخزن الفضة، ثم طلبت منها ترتيب زهور مائدة الغداء بنفسها — وهو عمل كانت تشرف عليه لارينا شخصيًّا.
وحين أتمّت راما العمل، ومرّ اليوم كخيط طويل من المهام التي تنزلق من يد إلى يد، وقفت لارينا في نهاية الممر تنظر إليها.
"أنتِ تجيدين البقاء واقفة… أكثر مما توقعت."
ثم مضت، وتركت خلفها عطرا خفيفا يشبه رائحة أزهار الويسكي.
راما كانت تعلم…
هذا لم يكن سوى البداية.
في ذلك القصر…
لم تكن السيدات يقتلن بسكين، بل بكلمة…
وبحمل العمل حتى يختنق قلبك.
ومع كل خطوة، كانت راما تحصي عدد المهمات… وتبتسم في سرّها.
"لن تسقطينى، يا لارينا.
كما لن تسقطني نظرات سيدك."