رواية حاملة الندبة (كاملة جميع الفصول) بقلم اسماعيل موسي
كانت الأرض موحلة تحت قدميها، والسماء تتدلّى منها غيوم داكنة ثقيلة، كأن المطر ينتظر اللحظة المناسبة لينهمر.
ليان شقّت طريقها وحدها عبر الممر الترابي، عالقة في صمت الغابة، لا تسمع إلا وقع خطواتها والطَنين المتقطع لذكرى قديمة… ذكرى ليلة لم تفارقها قط.
"اقتربي… اقتربي يا ليان…"
صوت جدتها الهامس يتردد في رأسها، بصوتٍ متهدج منهك، تمامًا كما كان يومها قبل سبع سنوات.
في تلك الليلة، كانت جدتها تحتضر.
جسدها النحيل يتكوم فوق الفراش، وعيناها الغائرتان تنظران بثبات إلى سقف الغرفة الخشبية.
"اسمعيني… قبل أن يأخذني الرب…"
كان هذا أول مرة تسمعها تذكر اسم الرب منذ أعوام.
"اسمها… اسم أمك… ليفاتا، هجرتنا وهى شابه ثم عادت بعد أعوام لتتركك امام عتبة منزلنا، حينها قالت لا تستطيع أن تحتفظ بك وحينما نهرتها، بكت، انتحبت وهمست بأنكسار
افعل ذلك من أجل مصلحتها، ثم طبعت قبله فوق خدك قبل أن ترحل إلى قرية اسمها…بارنيساس، وجعلتنى اعاهدها ان لا اسمح لك بالذهاب إلى هناك ابد مهما حدث
تلك الليلة كانت الريح تصفر في النوافذ، وقطرات المطر تسقط متفرقة على سقف الحجرة.
لم يكن بعقل ليان الصغيرة سوى سؤال واحد: لماذا؟
لماذا تركتها أمها؟
ولماذا لم تذكرها الجدة طيلة هذه السنين؟
لكن الجواب لم يأتِ أبدًا.
رحلت العجوز بعدها بساعات، وتركتها وحدها مع ورقة ممزقة تحمل الاسم، والوصية الغامضة، لا تدخلى القريه ليلآ
والآن… بعد سنوات من الوحدة والتشرد، وجدت ليان نفسها تمشي في الطريق ذاته الذي قاد أمها للهروب.
تحدّق في الغابة الصامتة، تتذكر ملامح الجدة العجوز، ورعشة صوتها وهي تنطق:
"لا تقتربي من بارنيساس فى العتمه
حين وصلت ليان إلى مشارف القرية، كان الليل قد أطبق تمامًا.
أشجار الصنوبر الممتدة على جانبي الطريق التصقت ببعضها، تكوّن سقفًا معتمًا فوق رأسها، حتى أن القمر بالكاد كان يُرى من بين الأغصان الثقيلة.
لم يكن هناك ضوء واحد في الأفق.
بيوت صغيرة خشبية متفرقة، نوافذها مغلقة، وأبوابها موصدة كأنها تتنفس الخوف.
وقفت ليان عند آخر شجرة تفصل الغابة عن حدود القرية، تنظر إلى الداخل.
كل شيء ساكن… بلا حركة… لا كلاب تنبح، لا أصوات متأخرة تعبر الطريق…
صمتٌ ثقيل جعل قلبها يخفق ببطء غريب.
أحكمت معطفها المهترئ حول جسدها النحيل، وحدقت في درب الطين الممتد وسط البيوت.
هناك شيء ما في الهواء…
رائحة رطبة، كأن الأرض نفسها تحمل ذكرى موتٍ قديم.
ترددت لحظة.
ثم فكرت:
"لا… ليس الآن."
لم يكن عقلها يحتمل أن تدخل قرية مهجورة بهذا الشكل، في هذا الظلام.
قالت لنفسها: ستنتظر حتى الصباح.
حين تشرق الشمس، ويذوب هذا السكون المريب، ستمضي إلى الداخل.
بحثت بعينيها عن مكان مناسب، فوجدت قطعة أرض مرتفعة نسبيًا عند طرف الغابة.
شجرة ضخمة بجذع عريض يمكن أن تستند إليه، وبعض الأحجار المتناثرة.
جلست هناك، أخرجت من حقيبتها قطعة خبز يابس وقنينة ماء.
مدّت ساقيها فوق العشب، وأبقت عينيها متعلقة بالبيوت المعتمة.