رواية دموع علي ارض الصعيد الفصل الرابع 4 بقلم نور الشامي
الفصل الرابع
دموع علي ارض الصعيد
نزلت روح من السيارة ببطء تتفحص بعينيها المكان الذي وقفت فيه لأول مرة بجوارها رحمه ملامحها شاحبة وتبدو مرهقة بينما كان كاسر يتابع خطواتهما بصمت، وأدهم يسير خلفهم وهو يمسك بذراع زوجته بعناية فـ ارتفعت أنظار روح إلى القصر الضخم.... كان شامخا كأنه لوحة معمارية من زمن فات مزخرفا بلمسات قديمة تنبض بالفخامة.... الفناء واسع تتوسطه نافورة ساكنة وصوت المياه المنسابة منها يضفي سكينة غريبة رغم توتر الجو ما إن دلفوا إلى الداخل حتى ظهرت سيدة مسنة ذات وقار وهيبة تحمل نظراتها حنانا خاصا واسرعت نحو رحمه واحتضنتها بقوة ثم قالت:
حمد لله على السلامة يا بنتي… نورتوا البيت كله والله.. تعرفي انا هعمل ليله لكل اهل البلد حلاوه رجوعك.. جوليلي عامله اي دلوجتي
ابتسكت رحمه بتعب ثم رددت بصوت خافت:
الله يسلمك يا تيتة.. انا بجيت كويسه اهه الحمد لله
أشار أدهم نحو روح وهو يتحدث بهدوء:
ـدي روح… هتكون مع رحمه الفترة الجاية تراعيها وتساعدها
نظرت الجدة إلى روح طويلا ثم ابتسمت وقالت:
ونعم البنت... شكلها طيب جوي.... البيت بيتك يا بنتي ال بيوجف جمب ولادنا… يبجى مننا.
ابتسمت روح بأدب وقالت:
شكرا يا حجه أنا اهنيه بس علشان أساعد مدام رحمه لحد ما تجوم بالسلامة
لكن لم يلبث هذا الهدوء أن انكسر حين خرج صوت أميرة من أعلى الدرج وهي تقول بامتعاض:
ـيعني إي؟! هي دي هتجعد فوج معانا... تبجى جمب أوضنا اكده عادي
اتجهت الأنظار إليها لكن قبل أن تتحدث الجدة قال كاسر بصرامة:
ـ أميرة… اسكتي انتي.. مش عايز اسمع صوتك
سكتت اميرة وهي تكتم غضبها فتقدم كاسر نحو روح وقال:
تعالي أوريكي أوضتك
سارت روح خلفه عبر الممر الطويل في الطابق العلوي مرت بعدة أبواب حتى توقف عند إحداها فتحه وأشار إليها بالدخول ثم قال:
اوضتك اهنيه …و أوضة رحمه جمبك وأنا أوضتي الناحية التانية لو احتاجتي أي حاجة جوليلي
أومأت برأسها ولم تتكلم بينما خرج كاسر وأغلق الباب خلفه فـ تقدمت روح بخطوات بطيئة داخل الغرفة كانت بسيطة الترتيب لكنها دافئة ذات نوافذ تطل على الحديقة الخلفية والستائر البيضاء تتحرك مع نسمات الهواء الهادئة فـ وقفت في منتصف الغرفة ونظرت إلى الجدران ثم همست وكأنها تخاطب قلبا غائبا:
ـخلاص يا فرات… حقك هيرجع.. وجريب جووي انا مستحيل اسمح ان حد فيهم يا يعيش مبسوط... بجيت في وسطهم وهجتلهم واحد واحد
في تلك الليلة الهادئة ظاهريّا كانت العاصفة تزمجر داخل غرفة رحمه التي وقفت هناك في صمتٍ ثقيل تراقب ادهم وهو يخلع قميصه أمام الخزانة وجسده مشدود كوت على وشك الانفجار ونظراته لا تعبر سوى عن الجفاء والضيق فـ تقدمت رحمه نحوه بخطوات خافتة ومدت يدها إليه بحذر لكن قبل أن تلمسه استدار فجأة وأبعد يدها بقسوة وهو يهتف بانفعال:
أوعي تلمسيني فاهمه
تراجعت رحمه للخلف بصدمة وعيناها تتسعان في ذهول فواصل أدهم بصوت ممتلئ بالاحتقار:
انا بكرهك… بقرف منك… ومش عارف أنا ليه مستحمل دا كله والله العظيم
كانت كلماته كالسكاكين تقطع أوصالها في صمت لكن رغم ذلك تقدمت نحوه ثانية ودموعها تنساب بصوت مبحوح:
ـ أنا عملتلك إي؟! جولي بس… أنا بحبك والله العظيم بحبك انت ليه بتعمل معايا اكده
نظر إليها باحتقار وهو يرد ببرودٍ قاتل:
بس أنا بكرهك... مش بحبك ولا طايج ابص في وشك ولا طايق حتى نفسك.
تكسرت الدموع في عينيها أكثر وتعلقت بنظراته المنفرة كأنها تبحث عن ذرة رحمة وهتفت:
طب جولي أعمل إي...انا مستعده أعمل أي حاجه علشان ترضى
صرخ ادهم فجأة وكأن شيئا انفجر بداخله:
مفيش حاجة هترضيني منك... مفيش اي حاجه هترضيني... علشان أنا أصلا مش عايزك!
تجمدت رحمه في مكانها ثم همست في انكسار وهي تبتعد عنه:
خلاص…مدام مش عارفة أسعدك… طلجني
وهنا انفلت صبره تماما واندفع نحوها كمن انقض عليه شيطان وصفعها بقوة على وجهها فسقطت أرضا ثم أمسك بشعرها وشدها بعنف مزمجرا في وجهها:
عايزة تطلجي علشان أخسر الـ5 مليون مؤخر ال أخوكي خلاني اكتبهم يوم جوازنا ..... علشان أخوكي يخربلي كل شغلي ويبهدلني في السوق صوح... دا ال انتي عايزاه.... انا كرهتك…
وعمري ما كرهت حد في حياتي زيك والله
كانت رحمه تبكي بصوت خافت تتوسل بنظراتها لكنها لم تنطق وفجأة… دوى صوت طرقات على الباب فـ تجمد أدهم في مكانه ثم أفلت شعرها بسرعة وهتف وهو يلتقط قميصه ويرتديه على عجل:
جومي… جومي بسرعة. يلا
نهضت رحمه وهي تمسح دموعها بظهر كفها المرتعش ووقفت خلفه تترنح فـ فتح أدهم الباب وكانت الواقفة هناك... روح التي نظرت اليه بشك ورددت:
العلاج يا مدام رحمه.. دا ميعاده.. انتي كويسه... شكلك تعبان جوي
نظرت رحمه بتوتر وهتفت:
انا كويسه جوي مفيش حاجه.. تعالي اتفضلي يا روح
وفي صباح يوم جديد... كان صباحا هادئا على غير العادة... النسيم يتسلل برقة من النوافذ العتيقة يلامس الستائر البيضاء فتتمايل بخفة فـ خرجت روح من غرفتها ترتدي عباءة بسيطة وخطاها تتجه نحو الممر الطويل تتأمل الزخارف القديمة والأبواب الخشبية الضخمة وتتمهل عند كل ركن كأنها تبحث بين تفاصيله عن أثر… عن خيط يقودها إلى الحقيقة حتي نزلت إلى الطابق السفلي فسمعت صوت أواني وأحاديث ناعمة قادمة من جهة المطبخ واقتربت بخطوات حذرة حتى وصلت إليه فوجدت عددا من العاملات منشغلات في تجهيز الإفطار. وبادر بعضهن بالنظر إليها فتقدمت روح بخطوات ودودة وابتسمت قائلة:
صباح الخير يا بنات… تحبوا أساعدكم في حاجة
تبادلت العاملات النظرات قبل أن ترد إحداهن بابتسامة بسيطة:
صباح النور يا هانم… دا نورك والله ربنا يعزك إحنا تمام.
قالت أخرى كانت تقطع الخبز وتتحاشى النظر المباشر إليها:
سبحان الله… انتي وشك فيه شبه كبير من بنت كانت شغالة عندنا اهنيه
توقفت يد روح فجأة وعيناها اتسعتا برهبة مكتومة فهتفت بصوت مرتجف:
مين.... اسمها إي عاد
ردت الفتاة الأولى ببساطة:
فرات… كانت بنت طيبة جوي… وشها كله نور... جلبها أبيض ودايما بتضحك وبتساعد الكل
تداخلت أخرى في الحديث قائلة بحنين واضح:
والله كانت بتعاملنا زي خواتها… لا عمرها تعالت علينا ولا زعلت حد كل الناس في الجصر كانت بتحبها
ثم خفضت صوتها قليلا وأضافت:
ما عدا رائف بيه وكاسر بيه… كانوا دايما بيعاملوها وحش… مش طايجينها خالص معرفش ليه عاد
ارتبكت روح وهمست:
ليه.... ليه مدام كانت كويسة اكده
هزت إحداهن كتفيها وقالت:
ــ الله أعلم محدش عارف…بس في يوم اكده… اختفت.
مرة واحدة من غير لا وداع ولا كلام… ولا حد سأل عنها
تبادلت العاملات نظرات القلق وكأن الحديث عنها ممنوع أو أن ذكراها ما زالت تحمل نذيرا ما وقبل أن تنبس روح بكلمة أخرى… دخلت إلى المطبخ امرأة ضخمة الجسد ملامحها صارمة تضع على رأسها طرحة سوداء مشدودة وتعلو وجهها نظرة حزم لا تخطئها العين كانت رئيسه الخدم وتقدمت بخطوات ثابتة وقالت بصرامة:
كفاية كلام… كل واحده ترجع شغلها.
سكت الجميع على الفور ثم التفتت إلى روح وأخفضت صوتها قليلا قائلة بنبرة مهذبة :
كاسر بيه عايزك في أوضته… دلوجتي
ابتسمت روح بارتباك وذهبت وفي غرفة كاسر كان واقفا عاري الصدر جسده مشدود وعضلاته تتحرك بانسيابية مع كل مرة ينخفض فيها ليؤدي تمرين الضغط وقطرات العرق تنساب على ظهره وصدره العريض وتنفسه كان منتظما لكن ملامحه تدل على انشغال ذهنه بأفكار أثقل من جسده.حتي دوى صوت طرقات خفيفة على الباب فقطع سكون الغرفة واعتدل في جلسته وقال بصوته الأجش:
ادخلي
دفِع الباب ببطء ودخلت روح بخطوات حذرة وما إن رفعت عينيها حتى ارتبكت من المشهد أمامها... جسده العاري المتعرق وشعره المبلل ومنديل أبيض في يده يمسح به وجهه و عينيه كانتا شاخصتين نحوها بثبات غريب فـ تلعثمت قليلا ثم قالت:
حضرتك طلبتني
نهض كاسر من الأرض سحب قميصا أبيض من فوق الكرسي لكنه لم يرتده، بل تقدم نحوها وأعطاها ظرفا بنيا متوسط الحجم وهو يقول:
دا مرتب شهرين... وطلب إجازة من المستشفى خدته ليكي مدفوع الأجر وموجود كمان في الظرف
نظرت روح إلى الظرف باندهاش ثم فتحت جزءا بسيطا منه لترى رزما من المال بداخله فرفعت رأسها نحوه وقالت:
كل دا ليه عاد.. هعمل اي بالفلوس دي كلها
رد كاسر بجمود وهو يمسح عرقه:
علشان انتي في بيتي... ومسؤولة عن أختي... وعلشان تبجي عارفة إن أي غلط.... أي خيانة... أنا هجتلك بكل سهوله
جف حلق رزح للحظة ولم تستطع الرد فقط اكتفت بالنظر إليه بتوتر فأشار بيده وهتف:
اتفضلي... اخرجي يلا
استدارت روح لتخرج لكن قدمها اصطدمت بأداة الحديد الخاصة بالتمرين واختل توازنها وسقطت على الأرض و فجأة صرخة ألم حادة خرجت منها جعلت كاسر يتقدم نحوها بسرعة:
مالك.. في اي عاد
اقترب منها وانحنى فـ حاولت الوقوف لكنها صرخت مجددا فلم تتكلم من الألم فقط أمسكت بكاحلها بتوجع فـ انحني منها أكثر ثم حملها بين ذراعيه دون أن ينظر في وجهها.... توترت أنفاسها وخفضت رأسها بتوتر وقلبها ينبض بعنف من قربه. ثم وضعها على الفراش برفق وجلس عند طرفه ومد يده إلى قدمها المصابة لكنها سحبتها فجأة في ذعر:
لأ… لأ متلمسنيش
رفع رأسه إليها وقال بجفاف:
لازم أشوف رجلك… واضح إنها التوت
ثم أمسك ساقها برفق وحاول تحريكها قليلا لكنها صرخت من شدة الألم فتراجع ببطء وقال بنبرة حاسمة:
خلاص… أنا هطلب الحكيم يجي يشوفك احسن
نهض كاسر من مكانه وخرج من الغرفة بخطوات سريعة. وبمجرد أن أغلق الباب جلست روح وهي تتنفس بسرعة، وجهها شاحب وعقلها مشوش. نظرت نحو الباب الذي خرج منه، وهمست لنفسها بدهشة:
هو في اي... انا مالي بالظبط ولا اي بيوحصلي... لع لازم افوق واصحصح شويه.. اي هيضحك عليا انا كمان.. دا واحد حقير وجليل الباب .. هو السبب في موت فرات ولازم دا ال يفضل في دماغي وبس
وبينما كانت تهم بالنهوض ببطء انتبهت إلى هاتفه المحمول الموضوع على المنضدة القريبة...و الهاتف يهتز ويرن وبلا وعي مدت يدها نحوه وما إن قرأت الاسم على الشاشة حتى اتسعت عيناها بذهول وارتجف قلبها...
كريم
تحاملت روح على نفسها وهي تنهض ببطء من على الفراش و أنين خافت خرج منها مع كل حركة لكنها تجاهلت الألم كل ما كانت تفكر فيه هو الاسم الذي رأته منذ لحظات على شاشة الهاتف... كريم وفتحت الباب بخفة، وما إن همت بالخروج حتى اصطدمت بنظرة كاسر الذي عاد لتوه فاقترب منها بسرعة وقال بحدة:
بتجومي ليه... اجعدي... الحكيم جاي حالا
قال كلماته وهو يضع الهاتف على أذنه لكن ما إن لمح نظرة روح المترقبة نحو الجهاز حتى أنهى المكالمة فجأة وأغلق الهاتف فنظرت إليه روح بعينين ممتلئتين بالشك والغضب لكنها لم تتكلم فقط شدت عباءتها وجلست بصمتٍ متشنج وما هي إلا لحظات حتى طرق الباب فدلفت الخادمة وقالت بتوتر واضح:
كاسر بيه… فيه واحده تحت عايزاك
رفع كاسر حاجبه باستغراب وسأل بجمود:
مين؟
ردت الخادمة بعد لحظة صمت:
بتجول إنها... عمة فرات... ال كانت بتشتغل عندنا
ارتبك وجه كاسر للحظة لكن عين روح اتسعت في صدمة، وتعلقت بنظرات الخادمة التي لم تلاحظ ما أثارته كلماتها فأكملت الخادمه:
وبتجول انها عايزاك تساعدها علشان تلاحي بنت اخوها التانيه و
لم تنهي الخادمه كلماتها وفجاه سقطت روح علي الارض مغشي عليها و
يا تري اي علاقه كريم بـ كاسر ورائف