رواية فتيات القصر الفصل الثلاثون 30 بقلم اسماعيل موسي


 رواية فتيات القصر الفصل الثلاثون 30 بقلم اسماعيل موسي


#فتيات_القصر


30


في مساءٍ خانق السكون، بعد يومين قضاهما السيد بين رفوف مكتبته العتيقة، يتصفح مخطوطاتٍ مهترئة وكتبًا نادرة عن "عطور الإرادة" وأسرار الأبخرة القديمة التي سادت بلاط النبلاء في عصور سحيقة… خرج أخيرًا من عزلته.


كان وجهه شاحبًا على غير عادته، وعيناه الضيقتان تشعّان ببريق ساخر مخيف. في يده اليسرى سيجارته الطويلة تشتعل ببطء، وفي اليمنى زجاجة صغيرة أنيقة من الزجاج الأزرق الداكن، لا تحمل أي علامة، سوى ختمٍ شمعيٍّ قديم.


جلس السيد على مقعده الجلدي الفاخر، تحت ضوء الشمعدان النحاسي المتدلّي، وفتح زجاجة الترياق الذي حصل عليه من بين دفتي كتابٍ فرنسي عتيق.

رفعها نحو أنفه واستنشق الرائحة النفاذة العتيقة… مزيج من المر واللافندر المحترق، وقطراتٍ من زيت العنبر الأسود.


شعر بحرارة تجري في عروقه.

إنه الترياق القديم، صُنع خصيصًا لتحصين الإرادة من عطور السحر المموّه.


ابتسم لنفسه، وهمس:

ـ "ليبدأ العرض."


ثم أمر خادمًا أن يستدعي الخادمة راما دي فلور إلى جناحه الخاص، وأوصاه ألّا ينبس بكلمة.


---


في الجانب الآخر من القصر، كانت راما تتحضّر بعناية لا تعرف فيها الخطأ.

ثوبها من المخمل الكحلي الداكن، تنسدل أطرافه كظلالٍ ثقيلة، وشعرها مصفوف بعناية أسفل رقبتها على هيئة ضفيرة طويلة تتدلى كالحرير.

وفي كل قطعة من ملابسها… من طيات الفستان، إلى الرباط الحريري حول معصمها، إلى البروش العاجي الصغير في صدرها… تسللت قطرات الأثير.


لم تكن مجرد عطر.


بل طقس مكتمل.


عبق الأثير الذي اعتادت سيدات البلاط الفيكتوري استخدامه لإخضاع الرجال النبلاء، لعقودٍ خفية تُنثر في الهواء، تسرق إرادة من يتنفسها، وتجعله طوع أمر العطر والأنثى.


راما لم تكن تخطط لشيءٍ طائش. بل لسيد القصر نفسه.


سارت في الرواق الطويل بخطواتٍ ثابتة، والممرات تصدر صدًى خافتًا تحت وقع حذائها المكسو بالساتان.

والعطر يتصاعد مع كل حركة، يتشبث بالمكان، يلف السجاد والمفروشات كضبابٍ وديع، حتى بدا كأن الأثير سبقها إلى الغرفة.


---


طرقت باب السيد بخفة.

ومن الداخل، بصوتٍ هادئ لا يخلو من فتور، قال:

ـ "ادخلي."


فتحت الباب، وأطلت.


الغرفة بدت كما توقعتها… ولكن السيد، جالس على مقعده الجلدي، لم يُبدِ أية إشارة على أثر الرائحة.


راما تقدّمت نحوه، العطر يسبح حولها كغلالة شفّافة، فوقف السيد ببطء، وسار نحوها.


في عينيه… ذلك البريق المتعجرف، نظرة من يعرف ما يدور، لكنه يترك الخصم يغرق.


قال بنبرة رخيمة:

ـ "تأخرتِ يا راما."


انحنت تحية، وتقدمت خطوتين، وهي تراقب عينيه علّها ترى ارتخاءً، أو ذوبانًا تحت سلطان الأثير.


لكنه ظل ثابتًا.


بل ابتسم.


وأشار إلى المقعد أمامه، وأمرها:

ـ "اجلسي."






جلست الخادمة في صمت، للمرة الأولى تشعر أن شيئا ما لا يتفق مع القواعد.


السيد راح يدور حولها بتمهل، كصيادٍ يطوف بفريسةٍ لم تُجهز بعد.

ثم قال بصوتٍ ساخر:

ـ "أما زلتِ تحملين عطر الأثير في ثنيات ثوبك، يا راما؟"


ارتجفت أطرافها، لكنها تمالكت.

ـ "لا أفهم قصدك يا سيدي."


اقترب حتى كاد أنفاسه تمس عنقها، ونظر في عينيها مباشرة:

ـ "بل تفهمين. وأنتِ أذكى من أن تنكري."


ثم استنشق الهواء حولها في حركة متعمدة، كأنما يسخر من محاولاتها.

ـ "تعلمين، راما… لقد علّمتكُن الطاعة، لكن يبدو أن بعضكن ظن أن في وسعه اللعب بسيّد هذا القصر."


انكمش صدر راما، وابتلعت ريقها.


نظر إليها طويلًا، ثم ألقى بزجاجة الترياق الفارغة على الطاولة أمامها:

ـ


_ما اسمك يا خادمه ؟


راما دى فلور يا سيدى


_تعرفين لما الصق اسمك القذر بأسمى الفاخر ؟


اعرف سيدى، فكلنا طوع امرك


__جميل ،

ما وظيفتك ؟


خادمه يا سيدى


_ وعندما ترغب الخادمه بأخضاع السيد ماذا يحدث لها


يتم محوها من دفاتر القصر يا سيدى


---


ثم اقترب السيد خطوة أخرى، حتى صارت أنفاسه تلامس صفحة عنقها الباردة، وقال بصوتٍ أخفض، تغلّفه نبرة السخرية الماكرة:


ــ "ظننتِ أن الأمر سيخفى عني، يا راما؟ أرى الحركات البطيئة خلف الأبواب، والنظرات المتواطئة بين الخدم. أشم رائحة الخيانة قبل أن يُفتح فمٌ أو تُعقد مؤامرة."


تشنّجت ملامح راما، لكنها تماسكت وقالت بصوت خافت: ــ "سيدي… لا أفهم ما تعنيه. الخدم أطوع من أن يجرؤوا… وأنا… لم أفعل إلا ما أُمِرت به."


ضحك السيد ضحكة قصيرة مريرة، وراح يدور حولها كذئبٍ يطوف حول فريسته المستسلمة: ــ "بل تفهمين… لكنك تظنين أن هذا القصر ملكٌ لك… أن تضعن في هوائه ما تشتهين، وتسحبن خيوط الإرادة من بين أناملي."


ثم توقف أمامها، وانحنى قليلًا حتى التقت عيناه بعينيها المرتبكتين: ــ "اسمعيني جيدًا… لن يجرؤ أحد على العبث بهذا البيت وأنا أتنفّس. والأثير الذي نثرتموه، لن يحجب عني رائحة التآمر… أعرف من يتحرّك… ومن يوشوش… ومن يخطط."


رفعت راما رأسها، وشفتاها ترتجفان: ــ "سيدي… أقسم…"


قاطعها السيد بإشارةٍ حاسمة من يده: ــ "كفى."


ثم استدار ببطء نحو النافذة، وصوته ينخفض حتى كاد يُسمع همسًا، لكنه كان كفيلًا بأن يجعل أوصال راما تقشعر: ــ "من يُمسك بخيوط هذا القصر… سأسحبه من ظله. ولتعلمي يا راما… أنني لا أترك ثأري معلقًا."


صمت.


والعطر لا يزال يسبح في الهواء…

لكن راما شعرت — لأول مرة — أن ذلك الأثير الخفي لم يعد سلاحًا بيدها… بل شبكةً ضيقة تنسجها حول عنقها.


السيد ما زال على عرشه.


---


راقبت راما انعكاس ملامحها المرتبكة في زجاج النافذة خلف السيد، حاولت أن تحافظ على وقارها — ذلك الوقار الذي طالما اتكأت عليه كسلاحٍ خفي — لكنها شعرت بأن نبضها يتباطأ، وكأن جدران الغرفة تضيق عليها.


ثم، دون أن يأذن لها السيد صراحة، قال بنبرةٍ خافتة كأنها صدى قادم من قبو بارد: ــ "انصرفي يا راما…


ولتكن خطواتك اليوم أهدأ من أفكارك."


ترددت للحظة، وأرادت أن تعقّب… أن تنطق بشيء يمحو أثر التهديد الجاثم على صدرها، لكنها أدركت أن لا كلمة ستُجدي.


انحنت راما ببطء، وخيوط شعرها تتهدّل فوق كتفيها المخمليّتين، ثم استدارت وغادرت الغرفة، وخطواتها تنقر الأرضية الملمّعة بصوتٍ خافت، كأنها تحاول أن تختفي بين ثنايا الهواء.


وحين أُغلِق الباب خلفها بنعومةٍ متعمدة، ظل السيد واقفًا في مكانه، يحدق في فراغ الغرفة المشبّع بعطر الأثير، وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه.


ثم همس لنفسه: ــ "ثمة يدٌ تحرّك هذا المسرح… وسأقطعها قريبًا."


كان يعلم أن راما لم تكن إلا رأس سهم صغير، وأن السهم قد أُطلق فعلًا.


---





كانت راما تمشي بخطى مسرعة في الممرات الطويلة، ولا يعلو على صوت كعبي حذائها سوى خفق قلبها المرتبك. الحوائط العتيقة تتقلص حولها، والشموع المتراصة في حوامل نحاسية ترسل ظلالًا راقصة فوق وجهها الشاحب.


لم تلتفت لأي خادم، ولم تعبأ بتحية الحراس. عيناها لم تفارقا الأرض الرخامية المصقولة، حتى وصلت إلى جناحها الخاص. بابٌ خشبي ثقيل يتوسطه مقبض نحاسي معتق… دفعته برفق، ودخلت.


كانت الغرفة على النحو الذي تركته:

ستائر مخملية قاتمة تحجب القمر، طاولة صغيرة بجانب السرير تعلوها شمعة وحيدة، ومكتب فوضوي يتوسطه معمل صغير — من صنع يديها — تكدست عليه زجاجاتٌ ضيقة العنق، وأدوات تقطير نحاسية، وأوراق مصفرّة كأنها نجت من حريق قديم.


جلست راما على مقعدها الخشبي العتيق، ثم مدت يدها المرتجفة نحو رفٍّ متهالك بجانب المكتب. سحبت منه كتابًا ذا جلدٍ أسود متشقق، تتخلله زخارف يدوية بالكاد تُقرأ.


فتحته ببطء.


صفحاته تنبعث منها رائحة الورق المتعفن والحبر الجاف، وعلى إحدى الصفحات — التي علمت مكانها مسبقًا — توقفت.


كانت هناك تعويذة مكتوبة بخط غريب متداخل، تُمجّد قدرة العطور على إذابة الإرادة البشرية وإخضاع النفس كما يُخضع الساحر دُماه.


قرأتها بعينيها الحادتين، ثم ابتسمت.


نعم…


قالتها همسًا، ثم مررت أصابعها فوق السطور المظلمة.


كان قرارها قد نضج.


ستصنعه. العطر الذي يشبه السحر الأسود… لا عطر أثير هذه المرة، بل شيء يتسلل إلى عقول البشر كريحٍ رطبة في قبوٍ مغلق. شيء يُفرغ الجسد من صلابته ويترك صاحبه عبدًا خالصًا، ينفذ الأمر قبل أن يُقال

              

        الفصل الواحد والثلاثون من هنا 

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا   

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×