رواية فتيات القصر الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم اسماعيل موسي


 رواية فتيات القصر الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم اسماعيل موسي


#فتيات_القصر


             ٢٣


في تلك الليلة، عادت راما إلى غرفتها بثقل جسدها وأثر السياط يلسع ظهرها مع كل خطوة. ما إن أغلقت الباب خلفها حتى سقطت على الأرضية الباردة، متكئة على الحائط. الحجرة شبه معتمة، سوى ضوء الشمعة الذي يتراقص بجوار النافذة.


كانت أنفاسها متقطعة، وكتفاها يتشنجان مع كل وخزة ألم. جلست هناك طويلًا، تتأمل خطوط الخشب في السقف، تستدعي شريط ما حدث… عين السيد، ابتسامته، وضرباته التي لم تكن لتعاقبها بل لتكسر وهم سيطرتها.


لم تصرخ.

لم تسمح لنفسها بالانهيار أمام الخدم، ولا أمامه.

لكن الآن… كانت وحدها.


نزعت ما بقي من ملابسها الملطخة، ولمست بإصبع مرتعش أثر الضربات على ظهرها. الألم حاد، لكنه مألوف. وجع قديم يعود بطعم جديد.


لم تنتظر طويلًا. مع أول خيوط سكون الليل، فتحت باب غرفتها بصمت، متسللة نحو الباب الخلفي المؤدي إلى الحديقة. عرفت أن الجميع نائمون الآن، وليل القصر يبلع الأسرار.


خرجت من بوابة القصر، متوجهة نحو التلّة القريبة خلف الأسوار.


الهواء هناك كان أكثر نقاء، ورائحة العشب الرطب تمتزج بنسيم الليل.

انحنت تجمع الأعشاب التي تعرف أسرارها…

زهرة السِّندروس — لتهدئة الألم العضلي.

عشبة السَذاب — لخفض التورم.

ورق السِّمحاق — لتخفيف أثر الكدمات.

وورقتان من الياس البري، لعطرهما ودفئهما في المزيج.


لم تستعجل. كانت تعرف أين تنمو هذه النباتات حتى في عتمة الليل.


بعد أن جمعت ما يكفي، عادت بصمت.






في غرفتها، أشعلت موقدًا صغيرًا. وضعت الأعشاب في إناء نحاسي صغير مع قطرات من زيت الياسمين والمسك، وشرعت تخلطها.

الروائح بدأت تتصاعد، تهدّئ الهواء المشبع برائحة الدم.


أعدّت من المزيج دهانًا دافئًا، دلكت به ظهرها، تكتم شهقة الألم مع كل لمسة. ثم أفرغت بعضًا من المزيج في زجاجة صغيرة، وأضافت إليه قطرات من عطرها الخاص… العطر الذي تخفي فيه أسرارها.


عطر الأثر — كما تسميه.

مزيج يربك العقول، يثير الحواس، ويترك في الهواء أثرًا يشبه أثر الحلم.


حين فرغت، جلست أمام المرآة، تنظر إلى انعكاسها بعينين متعبتين… لكن فيها شيء آخر.

ليس فقط الألم… بل الغيظ.

، حين هدأت جلبة القصر وغفت الأرواح المتعبة، سُمِع طرقٌ خفيف على باب غرفة راما. ثلاث نقرات مترددة، كأن يد الطارق تخشى أن تُسمع.


رفعت راما رأسها عن الوسادة، عيناها المتعبة تضيئهما بقايا ضوء الشمعة. عرفت الطَرق…

لارينا.


"ادخلي."

قالتها بصوت خافت، لكنه آمر.


انفتح الباب ببطء، وظهرت لارينا. لم تكن تلك السيدة الواثقة ذات القوام المنتصب والابتسامة المستفزة التى جلدتها منذ سويعات 

كانت الآن…

مكسورة.


ثوبها منزوع الأكمام، شعرها مبعثر، وعيناها متورمتان من البكاء. خطوة بطيئة… ثم خطوة… حتى وصلت منتصف الغرفة وتوقفت، لا تجرؤ على النظر في وجه راما.


– "أ… أنا… أتيت…"

نبرة متكسرة، اختلط فيها الخوف بالذل.


رمقتها راما طويلًا.

رأت ما أرادت رؤيته هذا الانكسار، هذا الاحتياج.


– "من الذي كسرك هكذا يا لارينا؟ أليس هذا ما كنتِ تتلذذين برؤيته في وجهي؟"

قالت راما وهي تجلس في مكانها، دون أن تقف، دون أن تعطف.


همست لارينا، ويداها تتشابكان بقوة:

– "أنا… لا أحتمل… راسي… يتفجر… مزاجي… أنتِ وحدك تملكين العطر… عطر الأثر… رجوتك… أعطني… بضع قطرات… فقط…" أنا اسفه، اذا لم اجلدك كان السيد سيطردنى

ارجوك اقبل قدمك ارحمينى 


سكون.

ثم اعتدلت راما، ووقفت أمام طاولة العطور.

حملت الزجاجة الصغيرة، قلبتها بين أصابعها.

رائحة الياسمين والمسك وشيء خفي لا يُسمّى.


استدارت إليها.

– "ولماذا أمنحك إياه؟"

سؤال ناعم، لكنّه كالخنجر.


جثت لارينا على ركبتيها.

نعم… جثت.

– "أرجوكِ… راما… أرجوكِ… سأفعل أي شيء… أي شيء…"

انهارت دموعها، غطّت وجهها.


ظلت راما صامتة، ترقب هذا المشهد كملكة تشاهد سقوط خصمها.


ثم اقتربت، وقرفصت أمامها.

رفعت ذقن لارينا بإصبعها، وأجبرتها على النظر في عينيها.


– "تذكّري جيدًا هذه اللحظة اذا فعلتى اى شيء على غير ارادتى يا لارينا سيكون عقابك صادم 


ثم سكبت بضع قطرات من العطر على معصم لارينا.


رائحة دافئة، مخدّرة، تغزو أنفها.

توقفت رعشة يديها.

هدأت شهقاتها.


شهقت لارينا كمن ابتلع الحياة في زفير واحد، وأغمضت عينيها.


راما ابتسمت.

لا شفقة فيها…

بل سيطرة.


همست لها عند أذنها:

– "ستعودين غدًا… كما أنتِ… تطلبين المزيد. "

اخرجى لا اريد ان يزعجنى أحد


________________






في الليلة التالية، جلست راما وحدها في جناحها، زجاجات العطور مصطفّة أمامها، لكن عيناها تستقران على واحدة فقط.

زجاجة صغيرة، شفافتها تُخفي سائلًا بلون العسل الداكن، يلمع تحت ضوء المصباح كجمرة راكدة.


مدّت يدها إليها، رفعتها ببطء كما لو كانت تحتضن سرًّا قديمًا، ثم أفرغت بضع قطرات في وعاء زجاجي أصغر، وبدأت تُضيف إليه مكونات أخرى — لمسة من خلاصة العنبر، قطرة من زيت زهرة الليل، ونقطة من خلاصة الراتنج الأسود الذي لا يُستخرج إلا من شجرة واحدة في أطراف الغابة المحرّمة…


كل مكوّن يسقط في السائل كان كأنه يهمس باسم السيد.

اسم من علّمها الخضوع.

من أذلّها يومًا.


راما تعرف الآن…

العطر الأول كان مجرد بداية.

مجرد غلالة خفيفة تهيّج الدم وتربك الروح.


لكن هذه…

الجرعة القادمة…

ستسري في دمائه كما يسري السم البطيء، تعلق بأوردته، تضعف يقظته، تجعل من مزاجه رهينة أنفاسها… دون أن يشعر.


وحتى لو أنكر، حتى لو احتفظ بجبروته وكبريائه، فهي تعرف…

رأت ذلك في عينيه.

في بطء قراراته.

في التوهج الخافت الذي يمر بعينيه كلما مرّت بقربه تحمل العطر.

في تلك اللحظة الصغيرة، حين يتوقف للحظة قبل أن يتذكّر أنه السيد.


أعدّت راما الزجاجة الجديدة، قطّرتها في قارورة أصغر، واحتفظت بها في صدّتها، قريبًا من قلبها.


همست لنفسها:

– "كل شيء في وقته… سأطعمه منكهات أشد… وسأكون صبورة. لن أستعجل… الانتقام الذكي يحتاج نفَسًا أطول من الظلم."


كانت تعلم أن القصر كله سيبدأ شيئًا فشيئًا بالشعور بتأثير هذا العطر.

في الجو.

في الدم.

في الليل.


أما السيد…

فستجعله يُقبل على هذه الرائحة بلا وعي، بلا إرادة.

وسيأتي يوم — وهي واثقة — يناديها فيه من عليائه، لا لأمر… ولا لغضب… بل فقط ليشمّ أثرها.


ابتسمت راما لنفسها، وأغلقت الزجاجة.

في الغد…

ستكون أولى الجرعات.

           

          الفصل الرابع والعشرون من هنا 

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا     

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×