رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثاني 2 بقلم اسماعيل موسي

رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثاني 2 بقلم اسماعيل موسي

 رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثاني 2 بقلم اسماعيل موسي


#أميرة_البحر_القرمزى


                  ٢


الطفلة التي كبرت في القبر صارت الآن أشبه بكائن نصف بشري، نصف ظل. صوتها أهدأ، عيناها أكثر بريقًا في الظلام. ومع كل جلسة طويلة بجوار الرفوف الحجرية، كان الطيف القزم يغرس في عقلها شيئًا جديدًا.


بدأ معها من أبجدية غريبة، أحرف ملتوية كالأغصان اليابسة، متشابكة كجذور الأشجار. كانت حروف لغة الجان. في البداية، كانت تكتبها على التراب بأصابع مرتجفة، ثم على قطع من العظم المتناثر، ثم على صفحات الكتب نفسها.


القزم لم يكن صامتًا كما من قبل؛ صار صوته حادًا، كصفير يخرج من فم ضيق. كان يكرر لها الكلمات مرارًا حتى تتقنها، وكلما أخطأت، يضرب بيده الصغرى على الأرض فتتصدع الحجارة تحتها. ومع الأيام، لم تعد الطفلة تكتفي بقراءة الرموز… بل بدأت تكتب بلغتهم، تترك تعاويذ غامضة على جدران القبر، وكأنها توقّع وجودها فيه.


وحين تأكد القزم أنها صارت تجيد لغتهم، فتح أمامها أبواب المعرفة السوداء.





قادها إلى كتاب ضخم، غلافه من جلد متشقق، يهمس لها أنه كتاب الفلك عند الجان. صفحات مليئة برموز لنجوم لا يعرفها البشر، خرائط لسماء أخرى، مدارات لكواكب سوداء، وأسرار عن بوابات سماوية تُفتح فقط لمن ينطق الطلاسم الصحيحة.


ثم دفع إليها كتابًا آخر، ثقيلًا، يروي تاريخ الجان. حروب بين ممالكهم القديمة، عروش من لهب، مدن غارقة في باطن الأرض، وقصص عن ملوك جن لا يموتون بل ينامون تحت الرمال ينتظرون من يوقظهم.


بعده جاء دور الجغرافيا؛ خرائط لقارات لم يسمع عنها أحد، أنهار من ضوء، جبال من الزجاج، وكهوف تُقال إنها تنبض بالحياة.


ثم النباتات: أعشاب نادرة لا تنمو إلا تحت القمر الأحمر، أزهار لا تُقطف إلا باليد اليسرى وإلا تحوّلت إلى رماد. علّمها كيف تميز بين نبات يشفي ونبات يقتل، وكيف أن بعضها لا يُؤكل بل يُشمّ ليفتح العيون على عوالم خفية.


وأخيرًا، دخل بها عالم العطور. كانت الكتب تشرح كيف يُستخرج عطر من زهرة لا يراها إلا من تعلم لغة الجان، وكيف أن بعض الروائح تُستخدم لاستدعاء الأرواح، وأخرى لإبعادها، وروائح تصنع منها طقوس عشق أو طقوس موت.


الفتاة، التي لم تعرف يومًا القراءة في عالم البشر، صارت قارئة نهمة لكتب لا يفهمها سوى الجان. وكلما أغلقت كتابًا، شعرت أن روحها تكبر، وأن دمها يثقل بالمعرفة.


أما القزم، فصار أكثر التصاقًا بها. يجلس عند قدميها، يراقبها بعينيه الصغيرتين البراقتين، ويضحك حين يراها تخط على جدران القبر رموزًا جديدة. لم يعد مجرد طيف معلم… صار وكأنه وصيّ عليها، يجهّزها لشيء لم تفهمه بعد.


لكنها بدأت تلاحظ شيئًا غريبًا: كل كتاب تقرؤه، كل ورقة تقلبها، كانت تترك داخلها أثر غريب يظل ملاصقها 


مع مرور السنوات، ومع تعمّق الطفلة في الكتب والرموز، أدركت أن القزم الذي يصاحبها لم يكن وحده هناك. كان هناك طيف آخر، أكبر من مجرد ظل، أعمق من مجرد حضور، يطلّ ويختفي كما لو كان القبر نفسه يفرغه من أعماقه.


لم يكن للطيف شكل واضح، بل مجرد كتلة من عتمة أكثر سوادًا من الظلام المحيط. أحيانًا يظهر على هيئة ضباب يتجمع في زاوية الغرفة، وأحيانًا كظل يمرّ على رفوف المكتبة القديمة، فتتساقط منها ذرات غبار كأنها تذوب تحت وطأة وجوده. لم يتحدث يومًا، لم يقترب، لم يمد يدًا… لكنه كان يراقب.


كلما شعرت الطفلة بحضوره، كانت القشعريرة تجتاحها، الهواء يثقل في رئتيها، وأصوات الكتب نفسها تبهت كأنها تخاف منه.


أما القزم، الذي كان يقهقه بصوته المشروخ كلما أتقنت حرفًا أو طقسًا، كان يتغير فجأة. ينكمش، يلتزم الصمت، عيناه الصغيرتان تتابعان الأرض لا الفتاة. ضحكه ينقطع، حركاته تصير بطيئة، كأن وجود الطيف يجبره على الجديّة المطلقة.






في إحدى الليالي، بينما كانت الطفلة تتعلم أسماء النجوم في كتب الجان، ظهر الطيف بشكل أوضح:

ظل طويل انبثق من الحائط، امتد حتى غطّى نصف القاعة. أوراق الكتب على الرفوف تحركت وحدها، بعض الصفحات انفتحت كأنها تنصت. الطفلة نظرت بذهول، بينما القزم ركع على ركبتيه، مطأطئ الرأس، كأنما في حضرة سيّد لا يُرى.


لم يقترب الطيف منها، لكنه ظل واقفًا طويلًا، حتى شعرت أن قلبها سيتوقف. ثم، كما جاء، انحلّ في الهواء، تاركًا وراءه برودة خانقة.


تكرر الأمر مرارًا: الطيف يحضر فجأة، يرحل فجأة، لا يلمس شيئًا ولا يتحدث. لكن مع كل ظهور له، لاحظت الطفلة أن القزم يتغيّر، يزداد حدة، يوقف الضحك والمرح، ويجبرها على التعلم بصرامة كأن هناك عينًا عليا تحاسبه.


ومع الوقت، أدركت الطفلة أن الطيف لم يكن يراقب الكتب فقط… بل يراقبها هي. وكأن كل ما يحدث معها، من تعلم وقراءة وكتابة، كان يجري تحت عينٍ خفية تعرف أين تسير بها.


وأصبح السؤال الذي يطاردها كل ليلة وهي تغمض عينيها على برودة الأرض:

هل الطيف هناك لحمايتها… أم ليجهّزها لشيء أعظم منها؟


الطفلة، وقد كبرت وسط الكتب والظلال، صارت عقلها أوسع بكثير من عمرها. كانت تفكّ الرموز بسرعة، تحفظ الخرائط المعقّدة وتعيد رسمها بدقة، تعرف مواقع النجوم وأسماء النباتات الغريبة كما لو كانت وُلدت معها. القزم الذي رافقها كل تلك السنوات، لم يعد يضحك عليها بسخرية كما في البداية… بل صار يضحك بإعجاب. كان يلمع في عينيه الصغيرة بريق فخر خفيّ كلما تجاوزت توقعاته.


لكن في إحدى الليالي، حين تمددت الفتاة على الأرض الباردة لتنام، كان الظلام أعمق من المعتاد. بين غفوتها وصحوها، سمعت أصواتًا. لم يكن صوت الطيف الذي يكتفي بالمراقبة الصامتة… بل كان نقاشًا محتدمًا.


القزم بصوته المشروخ المتوتر:

"إنها لم تكتمل بعد… عقلها حاد، نعم، لكن روحها ما زالت طرية… ستتكسر إن أجبرناها الآن."


وصوت آخر، عميق، ثقيل كهدير يأتي من جدار القبر نفسه:

"كفاك مماطلة، لقد تعلمت ما يكفي. هي مستعدة. لا وقت للانتظار… يجب أن تبدأ."


القزم حاول المقاومة، صوته يعلو بارتباك لم تسمعه الطفلة من قبل:

"أنت لا تفهم… ذكاؤها لا يكفي وحده. هناك نار يجب أن تُشعل في دمها أولًا، وإلا ستبتلعها الكتب بدل أن تبتلع هي العالم."


لكن الصوت الآخر قاطعه بصرامة حاسمة، لا تحتمل جدالًا:

"لقد تقرر. غدًا تبدأ."


ساد الصمت فجأة، كأن الجدران نفسها عادت إلى نومها. الطفلة بقيت مغمضة العينين، تتظاهر بالنوم، بينما قلبها يخفق بعنف.


خطوات القزم اقتربت ببطء، جلست بجانبها، وشعرت بأنفاسه القصيرة الساخنة عند أذنها. لحظة صمت، ثم همس بصوت خافت، مملوء بالدهاء:

"أعرف أنك لستِ نائمة… أيتها الطفلة اللئيمة."


ارتجف جسدها، لكنها لم تفتح عينيها.


تابع القزم بصوت أوضح قليلًا، نبرة مختلفة عن أي وقت مضى، نبرة الجدية المطلقة:

"من الغد… لن تقرئي فقط. ستبدئين تدريبات المبارزة. الكلمات صنعت عقلك… لكن السيوف ستصنعك كاملة."


ثم جلس القزم جوار الفتاة، وقد أنهكه التعب من طول الحديث والدرس. أراح ظهره على الجدار الرطب، وعيناه تراقبانها بنظرة غريبة تجمع بين الفخر والخوف. ابتسم فجأة وقال بصوت خافت كأنه يخشى أن يسمعه أحد غيرها:


ـ "تعلمين يا صغيرة… لقد علمتك القراءة والكتابة، وحشوت رأسك بكتب لا يجرؤ كثير من الجان على لمسها. لكن هناك شيء لم أطلبه منك بعد."


رفعت الفتاة عينيها نحوه، تلمعان بضوء المشاعل المتراقصة، وسألت:

ـ "وما هو؟"


اقترب منها أكثر، حتى كاد صوته يكون همسًا في أذنها:

ـ "أريد أن أسمعك تغنين… أغنية من تراثنا، أغنية الأميرة المنفية."


صمتت الفتاة، تنظر إليه بدهشة ممزوجة بالارتباك. الغناء لم يكن شيئًا تعتاده في هذا المكان البارد، لكن كلمات الكتب القديمة، الرموز التي حفظتها في ليالٍ طويلة، أخذت تتردد في عقلها كأنها تنتظر تلك اللحظة لتخرج.


أغمضت عينيها، وضغطت أصابعها الصغيرة على حجر بارز بجانبها، ثم انطلق صوتها الرقيق يرتجف في البداية، قبل أن يستقيم ويأخذ نغمة غريبة لم تكن تشبه أصوات البشر:






أرها نيلفا… سيلاندرو ميثارا…

كيلين دارا، أشوا إيلفا نيثار…

زالون دريم، أمارا فين لوثار…

إيلفا… إيلفا… إيلفا…


نوفار أنديل… زاهارا 

ميثرا كيل، لوسان دارفون…

شيرال نيم، أوفار تامون،

إلدار… إلدار… إلدار…


ليثار أمور… فينارا ساندور،

ديمون فال، شادرو إيلنور…

نوفا شيل، إيردن فالور،

أمارا… أمارا… أمارا…


أشرا نيفال… لوتار كيسان،

دارفين سيل، ميزار أولهان…

أورفا دريم، كيلان تيفان،

نيثرا… نيثرا… نيثرا…


فالين دار، فالين دار،

أرواح الظلّ… أرواح النار،

نادت ملكة منفى الديار…

عودي… عودي… عودي…


الكلمات بلغة الجان، لكن اللحن بدا وكأنه أكبر من القبو نفسه. تردّد الصدى في الأعماق، ارتجّت الجدران، وبدت ألسنة النار في المشاعل وكأنها تنحني للحنها.


جلس القزم مذهولًا، عيناه تتسعان أكثر مع كل مقطع. وعندما انتهت، لم يصفق، لم يضحك، بل انحنى رأسه قليلًا وقال بصوت مبحوح:

ـ "لقد أيقظتِها… كأن الاميرة بنفسها تغنى هنا داخل هذا القبو اللعين


                الفصل الثالث من هنا 

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×