رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الخامس 5 بقلم اسماعيل موسي
#اميرة_البحر_القرمزى
٥
بعد مرور عشرة ليالٍ قمريّة كاملة، لم يغب عن قلب الطفلة الوعد الذي قطعته الجرادة العمياء. وفي الليلة العاشرة تحديدًا، حين نامت الجنيات القزمات في أجنحتهن الحجرية، والقزم غرق في تعبٍ عميق بعد يوم طويل من التدريبات، تسللت الفتاة بهدوء. خطواتها كانت خفيفة كظل، لا صوت لها إلا همسات رملية على أرض الممرات.
عرفت الطريق إلى الكهف وكأن ظلامه يناديها. دخلت بخوف وفضول، قلبها يخفق أسرع كلما توغلت. هناك، في العمق، لم تستقبلها العتمة وحدها كما في المرة السابقة… بل كائن مختلف.
الجرادة كانت في انتظارها. لكنها لم تكن كما عرفتها أول مرة: جسدها صار أضخم، جناحاها أكثر اتساعًا، وقرونها الطويلة تلمع في الظلام مثل شُعلتين ساكنتين. وفي يدها الأمامية اليمنى… كان هناك سيف.
سيف داكن، أشبه بقطعة من حجر الليل، تتخلله شقوق متوهجة كالنار المكبوتة. مدّت الجرادة السيف نحو الطفلة، وصوتها خرج أجشّ، كأنه نابع من جوف الكهف:
ــ "احمليه. لقد جاء وقت الحرب."
ترددت الطفلة، يداها ترتجفان وهي تلمس مقبض السيف البارد، لكن حين قبضت عليه، شعرت بحرارة غريبة تسري في جسدها، وكأن السيف يعترف بها.
ابتسمت الجرادة العمياء، ثم دارت حولها بخطوات بطيئة، وصوتها يملأ العتمة:
ــ "أنا سأعلّمك كما تعلّم الجراد. نحن لا نقاتل بالقوة وحدها، بل بالحيلة. تذكّري هذه:
١ ــ اضربي حيث لا يتوقع خصمك. لا من الأمام، بل من الظل.
٢ ــ اقفزي سريعًا. الجراد ينجو بالقفز لا بالركض. اجعلي قدميك سريعتين، كأنك تتركين الأرض نفسها وراءك.
٣ ــ اجمعي قوتك في لحظة واحدة. نحن الجراد نهجم في سرب، دفعة واحدة، ونغمر العدو حتى يختنق. تعلمي أن تضربي ضربة تُنهي، لا مئة ضربة ضعيفة."
وأمسكت الجرادة بيدي الطفلة، دفعتها لتقفز في الظلام، مرة بعد أخرى، حتى تورمت قدماها لكنها بدأت تشعر بخفة لم تعهدها من قبل. ثم أجبرتها على الانحناء والتسلل بين الصخور، أن تضرب بسيفها في زوايا غير متوقعة، أن تصرخ فجأة لتهزّ خصمها قبل أن تهوي عليه.
وبينما جسد الطفلة يتعب، كان عقلها يضيء: ما تعلّمه لم يكن مجرد حركات، بل فلسفة جديدة، أقسى وأذكى من تدريبات الجنيات القزمات.
وفي نهاية اللقاء، انحنت الجرادة بجسدها الضخم حتى اقتربت من أذن الطفلة، وهمست بصوت كالحفر في الحجر:
ــ "تذكّري… الحرب ليست قوة يا صغيرة، بل جوع. حين تجوعي للنصر كما يجوع الجراد للزرع، عندها فقط… ستفهمين."
رفعت الطفلة السيف بيديها المرتعشتين، ولمعت عيناها في الظلام بشيء جديد… شيء لم يكن موجودًا فيها قبل تلك الليلة.
مرت أيام قليلة بعد عودة الطفلة من الكهف، لكن آثار ما جرى هناك لم تستطع أن تخفيها طويلًا. حين رفعت السيف في تدريباتها أمام القزم والجنيات، لاحظوا لأول مرة أن ذراعيها لم تعودا هزيلتين كما في السابق، بل بدأت عضلات صغيرة تتشكل على كتفيها وذراعيها، خطوط مشدودة لم تكن موجودة من قبل. حتى قبضتها صارت أثبت، ووقع السيف في يدها صار أشبه بامتداد جسدها لا بثقل يكسرها.
الجنيات اكتفين بالدهشة الصامتة، يراقبنها بعيون نصف مستغربة ونصف حذرة، بينما القزم اكتفى بزم شفتيه كأنه لا يريد الاعتراف أنه فوجئ. لكنهم لم يعرفوا… أن السر لم يكن في تدريباتهم.
فالفتاة كانت تتسلل من جديد إلى الكهف، كلما أظلمت الليالي، لتلتقي بالجرادة العمياء. لكن هذه المرة، ما رأته هناك جعلها تشعر بالرهبة: الجرادة لم تعد مجرد حشرة ضخمة. كانت تتغير.
جسدها ازداد طولًا وصلابة، جناحاها تشابها أكثر فأكثر مع أجنحة الجنيات، وقدماها الأماميتان استقامتا حتى كادتا تشبهان ذراعي إنسان. وجهها ظل محتفظًا بملامحه الحشرية، لكن حوله بدأت تظهر لمسات غامضة، كأنها مسحة من أنوثة غريبة، نصفها جرادة ونصفها جنية.
الفتاة ترددت وهي تراها، لكن الجرادة رفعت يدها الجديدة، وأشارت نحوها بالسيف، وصوتها خرج أعمق وأكثر وضوحًا:
ــ "اقتربي. لقد حان وقت الدرس الأصعب."
اقتربت الطفلة، والسيف في يدها، حين أطفأت الجرادة كل ما في الكهف من ضوء، حتى التوهج الباهت للشقوق الحجرية اختفى. صارت العتمة كاملة، خانقة، حتى أنها لم تعد ترى أصابع يدها.
ارتجفت، لكن صوت الجرادة همس في الظلام:
ــ "أنا بلا عيون. هكذا خُلقت، ومع ذلك أرى أكثر منكم جميعًا. إن أردتِ أن تتعلمي الحرب حقًا، عليكِ أن تتخلي عن عينيك."
وبدأت تمشي حولها ببطء، خطواتها لا تُسمع، لكن الطفلة أحست بالهواء يتحرك في اتجاهها.
ــ "أنصتي… للتنفس، لارتجاف الصخور تحت القدمين، لصوت السيف وهو يشق الهواء. لا تثقي بعينيك، بل بقلبك، بعضلاتك، بجلدك الذي يقرأ الريح."
ثم باغتتها بهجمة مباغتة في العتمة، فارتبكت الطفلة أول مرة، وسقطت على ركبتيها. لكن الجرادة لم ترحمها. هاجمتها ثانية وثالثة، حتى صارت الطفلة تصد الضربات لا بالنظر، بل بالحدس. شعرت بذبذبات الهواء قبل أن يقترب السيف، وانحنت في اللحظة المناسبة.
كانت تتعثر أحيانًا وتفشل، لكنها بعد ساعات من التدريب في ظلام مطبق، نجحت أن تصد ثلاث هجمات متتالية وهي مغمضة العينين.
ضحكت الجرادة لأول مرة، ضحكة خشنة كصرير جناحين:
ــ "هكذا… أنتِ الآن ترين كما أرى. بلا عيون… لكن أقوى من كل من يملكها."
رفعت الطفلة رأسها، والعرق يتصبب منها، لكن ابتسامة صغيرة تشكلت على فمها. كان في داخلها شعور جديد: أنها لم تعد وحيدة ولا ضعيفة كما كانت، وأن هناك قوة سرية تكبر في جسدها يومًا بعد يوم، بعيدًا عن أعين القزم والجنيات.
في إحدى الليالي المظلمة داخل الكهف، جلست الطفلة على صخرة بارزة، تتنفس بصعوبة بعد تدريب طويل مع الجرادة التي كانت قد ازدادت ضخامة وقوة. كانت ذراعاها ترتجفان من التعب، لكن عينيها، أو بالأحرى بصيرتها الجديدة، كانتا متوقدتين بشيء أشبه بالإصرار.
رفعت رأسها نحو الجرادة التي جلست قبالتها، والسيف الضخم يستند إلى كتفها الحشري العريض، وقالت بصوت خافت ممتزج برجاء طفولي:
ــ "أيمكنك أن تتحدثي معها… مع أمي؟ أن تطلبي منها أن ترحمني قليلًا؟ إنها لا تعاملني كابنتها… لا تضمّني… لا تنظر إليّ إلا كأنني عدو."
كان في نبرة الطفلة ارتجاف غريب، خليط من حنين خفي وخوف صامت. كانت تعتقد في أعماقها أن الطيف الجنية هي أمها، ولم تستطع تقبّل فكرة أن أمًا لا تمنحها العطف.
الجرادة التفتت إليها، عيناها المعتمتان الغارقتان في السواد لا تحملان أي وعود. ظلت صامتة للحظات، ثم صدر عنها صوت أجش، منخفض، حاسم:
ــ "لا. لن أفعل."
اتسعت عينا الطفلة بالذهول، فتابعت الجرادة ببرود، وقد أصدرت جناحاها رفرفة قصيرة كأنها صفعة هواء:
ــ "علاقتي بها ليست جيدة… ولن تكون. بيني وبينها ما لا يُصلَح. فلا تطلبي مني أن أتدخل في قلب لا يعرف إلا القسوة."
كادت دموع الطفلة تنحدر، لكن الجرادة تقدمت منها بخطوة ثقيلة، وضعت يدها المشوهة على كتفها وقالت بصرامة، وكأنها تغرس الكلمات في عظامها:
ــ "انسي الأمر. ليس لكِ سوى نفسكِ الآن. لا تنتظري الرحمة من أحد. إن كنتِ تريدين القوة، فاهتمي بالتدريبات. هذا كل ما سيحميك. هذا كل ما سيمنحك مكانًا بين من لا يعرفون الرحمة."
خفضت الطفلة رأسها، وأطبقت أصابعها الصغيرة على السيف بإصرار صامت. كانت تعرف أنها لن تسمع من الجرادة سوى هذه الحقيقة المرة. ومع ذلك، في قلبها ظل فراغ يتسع، جوعٌ غريب لعناق، لابتسامة… لشيء لن تجده في عيني أمها الغامضة التي تراقبها من الظلال.
لم تكن تدريبات الجرادة تشبه ما اعتادت عليه الطفلة مع القزم أو مع الجنيات الأخريات. كانت أقسى، أكثر بدائية، لكنها في الوقت نفسه ممتلئة بخبث غريب يختبر الجسد والعزيمة معًا.
في صباح معتم داخل الكهف، وقفت الجرادة فوق صخرة ضخمة، غليظة الحواف، وأمرت الطفلة أن تمسك بحبال ملتفة حولها. قالت بصوتها المبحوح:
ــ "اسحبيني… كأنك تسحبين عبءَ العالم كله."
ترددت الطفلة في البداية، يداها النحيلتان ترتجفان، لكن الجرادة ضربت الأرض بجناحيها فأحدثت رجّة جعلت الصخور الصغيرة تتساقط من السقف. عندها تشنجت الطفلة، وبدأت تسحب. كل خطوة كانت كأنها تمزّق أوتار ذراعيها، وكل نفس يقطع صدرها كالسكاكين. لكن الغريب أن الجرادة، وهي جالسة فوق الصخرة بثقلها المريع، راحت تغني بصوت مشروخ، أنشودة غامضة بلغة قديمة، كلماتها كالحجارة تُلقى في الماء الراكد.
"اسحبي الأرض…
افتحي الطريق…
من ينكسر لا يولد من جديد…"
كان الغناء يزيد العبء غرابة، كأن الطفلة تجرّ معها شيئًا أكبر من مجرد صخرة.
وفي يوم آخر، ساقتها الجرادة إلى بركة وحل عميقة داخل دهليز منخفض السقف. أمرتها أن تغوص حتى ركبتيها في الطين الكثيف، ثم مدت إليها عصا خشبية عريضة:
ــ "قاتلي… هنا، حيث الأرض تمسك قدميك وتبتلعك."
الطفلة حاولت أن تتحرك، أن تضرب الوحل، لكن كل حركة كانت تبطئها، تجعلها تغوص أكثر. صرخت محبطة، لكنها واصلت. كلما وقعت على وجهها داخل الطين، سمعت ضحكة خافتة من الجرادة، لا سخرية فيها بل قسوة تدريب لا تعرف الشفقة.
وحين انتهى اليوم، لم تترك لها الجرادة فرصة للراحة، بل ساقتها نحو جدار صخري أملس يتلألأ بقطرات ماء باردة، وقالت وهي تشير بجناحيها:
ــ "تسلّقي. لا أريد يديكِ أن تعرفا الرفق بعد اليوم."
نزفت أصابع الطفلة وهي تحاول أن تثبت نفسها على الصخور الحادة، خدشت ركبتيها وهي ترتفع قليلًا ثم تهوي من جديد. لكن مع كل سقوط، كانت الجرادة تردد ببرود:
ــ "الألم هو أوفى معلم. أمسكي به… وتعلمي أن تعودي إليه دائمًا."
شيئًا فشيئًا، بدأت عضلات الطفلة تنمو، تتصلب ذراعاها، ويشتد ساعداها. كتفاها الصغيرتان اكتسبتا صلابة لم تكن فيهما من قبل. حتى تنفسها بات أكثر اتزانًا، عميقًا، يخرج من صدرها كزفرة حيوان يتأهب للقتال.
وفي عيني الجرادة، وهي تراقبها من بعيد، ومض لأول مرة بريق غامض… ليس إعجابًا خالصًا، بل شيء آخر أعمق، كأنها ترى في الطفلة مشروع مخلوق وُلد من النار والظلام معًا.
كان الليل في نهاياته حين مدت الجرادة جناحيها الكثيفين، وأشارت للطفلة أن تتبعها في صمت. كان هناك دهليز ضيق طويل، لم يسبق أن دخلته الطفلة، تتناثر على جدرانه نقوش قديمة تشبه عروقًا مضيئة باللون الفضي. كلما تقدمتا، زادت الرطوبة وارتفع صدى خطواتهما. ثم فجأة… انشق الدهليز إلى فسحة نور غامر.
الطفلة أغمضت عينيها للحظة، الضوء كان أقوى من أن تحتمله بعد شهور من الظلام. وحين فتحت عينيها، شهقت بصوت مسموع.
أمامها امتدت أرض الجان.
غابة لم ترَ مثلها قط:
أشجار شاهقة تسمى أشجار الفجر، جذوعها بلون أزرق داكن وأغصانها تلمع كبريق المعدن، أوراقها كصفائح فضية تتحرك مع الريح فتصدر أصواتًا كالأجراس. إلى جوارها، انتشرت أشجار السهاد، ملتوية، تتدلى منها خيوط خضراء مضيئة كالسرج المعلقة، تضفي على المكان مسحة حلم غامض.
أما الزهور فكانت بحرًا من الألوان المستحيلة. زهور النداء بلون أرجواني تشع كالنيران الصغيرة، كلما اقتربت منها أصدرت نغمة رخيمة كأنها تعزف موسيقى. وعلى حواف البرك البلورية، تفتحت زهور السمر الجنية، بتلاتها شفافة كزجاج ملون، تعكس وجوه من ينظر إليها كأنها مرايا مسحورة.
والطيور… لم تكن طيورًا عادية. رفرفت فوقهما طيور الريشة النحاسية، أجنحتها تصدر صفيرًا رقيقًا يشبه عزف ناي بعيد، وكل ريشة منها تلمع باللون النحاسي عند سقوط ضوء القمر. وعلى الأغصان البعيدة جلست عصافير المرآة، صغيرة الحجم لكنها لامعة كالفضة، كل واحدة منها تعكس صورة من يراها فتبدو كأنها مئات النسخ من الطفلة والجرادة تطل من بين الأغصان.
الأرض نفسها لم تكن ساكنة. الحشائش تحت قدمي الطفلة سُمّيت عشب الهمس، إذ أصدرت أصواتًا خافتة كأنها كلمات غير مفهومة كلما خطت عليها. والهواء كان أثقل من هواء الكهف، لكنه ممتلئ بعطر مزيج من الزهور والندى ونكهة غريبة تشبه البخور القديم.
وقفت الطفلة، أنفاسها تتلاحق، ويديها تتشبثان بثوبها الممزق، بينما الجرادة الضخمة إلى جوارها تراقبها بصمت.
قالت الطفلة بصوت يرتجف بين الخوف والانبهار:
ــ "هذا… هذا هو عالم أمي؟"
لم تجبها الجرادة، بل مدت جناحها وأشارت نحو العمق، حيث بدت الغابة لا تنتهي، والليل هناك يلمع بآلاف الألوان التي لم يعرفها بشر من قبل.