رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثالث 3 بقلم اسماعيل موسي

رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثالث 3 بقلم اسماعيل موسي

 رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثالث 3 بقلم اسماعيل موسي


#اميرة_البحر_القرمزى


            ٣


حين أفاقت الفتاة في الصباح التالي، لم يكن القبر كما تركته الليلة الماضية. الأروقة التي كانت مظلمة انفتحت على ساحة حجرية واسعة، سقفها يختفي في العتمة، لكن جدرانها متوهجة بأحجار فسفورية تنبض بضياء أخضر باهت. في وسط الساحة، وقفت ثلاث جنيات قزمات، قصيرات القامة مثله، لكن لكل واحدة منهن هيئة مختلفة وملامح تثير الغرابة.


الأولى كان وجهها بلون الرماد، شعرها قصير يلمع بوهج فضي، وعيناها كقطعتين من الثلج. الثانية وجهها مغطى بوشوم داكنة، تتلوى على بشرتها كما لو كانت حيّة، أما الثالثة فكان جسدها أنحف، عيناها واسعتان بلون العسل، وجناحان شفافان يتلألآن رغم صغر حجمها.


وقف القزم المشرف خلفها، صوته حاد وجاد:

ـ "اليوم ستبدئين ما لا عودة بعده. هؤلاء… معلماتك. ستعلّمنك فنون المبارزة كما لم يتعلمها بشر من قبل."


تقدمت الجنية ذات الشعر الفضي بخطوات ثابتة، ومدت للطفلة عصًا حجرية خفيفة:

ـ "هذه ليست سلاحًا بعد، إنها ظلّ لسلاحك القادم. ستتعلّمين أولًا كيف تحملي الوزن، كيف تسمعي صوته حين يضرب الهواء، قبل أن تفكري في لمس لحم خصمك."


تلتها الجنية الموشومة، أطلقت ضحكة قصيرة غريبة، ثم همست في أذن الفتاة:

ـ "أنا سأعلمك كيف تخدعين خصمك، كيف تجعليه يرى ضربتك في اتجاه، بينما قلبها في اتجاه آخر. القوة بلا دهاء… مجرد خشب مكسور."


أما الثالثة، صاحبة العينين الواسعتين، فقد اقتربت منها أكثر، ركعت أمامها حتى صارت في مستواها، وقالت بصوت ناعم لكنه متوتر:

ـ "وأنا سأريك كيف تنصتين. السيف ليس حديدًا فقط… إنه صدى نَفَسك، إيقاع خطواتك، ارتجاف قلبك. إن لم تسمعي نفسك، فلن تسمعي عدوك."





من بعيد، كان القزم يراقب بصمت، ذراعيه معقودتان، نظراته مشوبة بالقلق وكأن شيئًا في داخله يرفض استعجال هذه اللحظة. ومع ذلك، حين ترددت الفتاة وهي تمسك العصا لأول مرة، صرخ فيها بصرامة:

ـ "ارفعيها! لا مكان للضعف هنا. الأميرة المنفية غنّت من قبل… والآن حان وقت الدم."


أخذت الفتاة العصا بيديها الصغيرتين، ثقيلة عليها، لكن عينيها اللامعتين لم تتركا الساحة. كان الهواء من حولها ثقيلاً، يشبه بداية طقس جديد، طقس سيتحول فيه لعب الأطفال إلى تدريب قاتل.


في اللحظة الأولى التي أمسكت فيها الفتاة بالعصا الحجرية، بدا وكأن وزنها يفوق جسدها كله. ذراعاها النحيلتان ارتجفتا، وانحنى معصماها الصغيران إلى الأسفل حتى كاد الحجر يلامس الأرض. حاولت رفعها من جديد، لكن جسدها لم يحتمل، فسقطت العصا من يديها على الأرض بضربة صاخبة ترددت في أرجاء الساحة الحجرية.


ضحكت الجنية الموشومة ضحكة قصيرة، مليئة بالسخرية:

ـ "إنها لا تستطيع حتى أن تحمل ظلّ السلاح، فكيف ستقاتل به؟"


شعرت الفتاة بوجهها يحترق من الخجل، مدّت يديها ثانية، رفعت العصا ببطيء، لكن ارتعاشة جسدها فضحت ضعفها. ما إن حاولت أن تحركها في الهواء حتى سقطت مرة أخرى، هذه المرة ارتدّت على قدميها فأطلقت صرخة ألم مكتومة.


وقفت الجنية ذات الشعر الفضي متجهمة وقالت بصرامة:

ـ "المبارزة لا ترحم الضعفاء."


لكن قبل أن تنحني الفتاة لالتقاط العصا من جديد، تقدم القزم من مكانه بخطوات ثقيلة، أمسك بالعصا ورفعها بيد واحدة، ثم وضعها بين يديها مجددًا. صوته كان قاسيًا في بدايته، لكن شيئًا في نبرته انكسر:

ـ "اسمعي يا صغيرة… أنتِ لستِ قوية الآن، صحيح. ستسقطين عشر مرات، مئة مرة. لكن كل مرة تنهضين فيها، تكونين أقوى مما كنتِ عليه."


حدّق في عينيها مباشرة، عينيه اللامعتين صارتا أهدأ:

ـ "لا يهمني أن يضحكوا. لا يهمني كم مرة سقط السيف منك. ما يهمني فقط هو أن ترفعيه مجددًا. هذا هو السرّ… ليس في القوة، بل في الإصرار."


ابتلعت الفتاة غصتها، مسحت دموعها الخفيفة بطرف كمّها، ثم مدّت يدها للمرة الثالثة. هذه المرة ارتجف جسدها كما كان، لكن عينيها لم تهتزّا. رفعت العصا، وإن كانت ثقيلة، تمسكت بها بكل ما بقي في ذراعيها الصغيرتين.


من بعيد، تبادلَت الجنيات الثلاث نظرة صامتة، ولم يضحك أحد. كان في تلك اللحظة الصغيرة شيء مختلف، كأن الشرارة الأولى قد اشتعلت بالفعل.


في إحدى الليالي، بعدما غادرت الجنيات الثلاث الساحة الحجرية واختفى صدى خطواتهن في الممرات العميقة، جلس القزم بجوار الفتاة التي كانت منهكة، أنفاسها متقطعة وذراعاها تؤلمانها من ثقل العصا. نظر إليها طويلًا، ثم قال بصوت منخفض كأنه يهمس بسرّ خطير:


ـ "لن ننتظر رحمتهم… ولا سخريتهم. إذا ظللتِ ضعيفة كما أنتِ الآن، سيلتهمونك قبل أن تتعلمي الضربة الأولى."


رفع يده القصيرة ولوّح بإصبعه في الهواء، فانفتحت فجوة صغيرة في جدار القبو، خرج منها هواء بارد ورائحة تراب قديم. قادها بصمت إلى ممر ضيق لم تره من قبل، حتى وصلا إلى قاعة خفية مضاءة بأحجار بلون أحمر داكن. في وسط القاعة كانت هناك صخور ضخمة معلّقة بسلاسل، وأحواض حجرية مليئة بسائل أسود كثيف يتصاعد منه بخار خانق.


أشار القزم إلى الصخور:

ـ "هذه لن ترفعيها بيديك… بل بجسدك كله. ستسحبين السلاسل حتى تنقطع أنفاسك، حتى يصرخ ظهرك ويداك. هكذا يبدأ الجسد بالتحمل."


ثم اقترب من الأحواض السوداء:

ـ "وهذا الشراب… مرّ كالسمّ، لكنه سيقوّي عظامك ويُثقل دمك حتى لا ترتجفي عند حمل السيف. ستشربين منه كل ليلة قبل النوم، وإلا لن تصمدي في الغد."






نظرت إليه الفتاة بعينين مترددتين، جسدها يصرخ رفضًا، لكن القزم انحنى نحوها وقال بصرامة لم تعهدها منه:

ـ "أنتِ اخترتِ أن تبقي. اخترتِ أن تتعلمي. لا طريق آخر غير هذا… إما أن تقسي جسدك أو يكسرك سيف أول عدو."


بدأت الفتاة بجرّ السلاسل. في البداية كان وزن الصخور يسحق ذراعيها، يجرح كفيها، يسقطها أرضًا مرارًا. لكنها، كلما سقطت، كان القزم يقف خلفها، يصرخ بها كي تنهض، يصفع الأرض بعصاه كأن الأرض نفسها تأمرها بالقيام.


وحين انتهت الليلة الأولى، جسدها مليء بالكدمات والعرق، أجبرها القزم على أن تشرب من السائل الأسود. كان مرًّا حتى سالت دموعها من شدته، لكن ما إن ابتلعته حتى شعرت بحرارة غريبة تنتشر في عروقها، وكأن شيئًا قاسيًا بدأ يزرع نفسه داخل عظامها الصغيرة.


ابتسم القزم أخيرًا، لأول مرة دون سخرية أو حدة، وقال لها بصوت منخفض:

ـ "هكذا تبدأ القوة الحقيقية… في الخفاء، حيث لا يراك أحد، ولا يسمعك سوى الحجارة."


بدأت الأيام تمرّ ببطء ثقيل، كأن الزمن في القبو يسير بعناد ضد رغبة الفتاة. كانت كل صباح تقف في الساحة أمام الجنيات القزمات، تحمل العصا الحجرية بيدين مرتجفتين، فتسقط منها مرارًا، وذراعاها ترتجفان حتى قبل أن تبدأ المبارزة. كانت الجنية الموشومة تهز رأسها في كل مرة وتقول باستهزاء:


ـ "لا فائدة… هذه الطفلة لن تصمد حتى أمام ظلّها."


والجنية الفضية كانت تصمت غالبًا، لكن صمتها أشد قسوة من الكلمات. أما الثالثة، صاحبة العينين الواسعتين، فقد كانت تحاول تلطيف قسوة التدريب، لكنها في النهاية تستسلم للواقع: الفتاة لا تتقدّم.


في النهار، لم يكن يلمع أي أمل. وفي الليل، حين يعود الجميع إلى صمت القبور، كان القزم يأخذها سرًا إلى قاعته المخفية. هناك يعيد المشهد نفسه كل ليلة: سلاسل أثقل من عظامها، صخور تهدد بسحقها، سائل أسود مرّ كالعذاب.


في البداية كان يصرخ فيها بحماسة، يشجعها، يرفع صوته حتى يتردد صداه في الممرات:

ـ "انهضي! اسحبي! لا تتوقفي!"


لكن مع مرور الأسابيع، ومع تكرار سقوطها، بدأ صوته يخفت، حماسته تذبل. صار يقف خلفها بصمت أحيانًا، يراقبها وهي تحاول ثم تنهار أرضًا، يتنفس بعمق وكأنه يحاول أن يقنع نفسه أن هذه المحاولات لا تزال تستحق العناء.


كان يرى في عينيها إصرارًا عنيدًا، لكن جسدها لم يستجب. لا عضلات تظهر، لا قوة تذكر. كل ليلة كانت تنام على الأرض الحجرية، مرهقة، متألمة، وعروقها مشبعة بمرارة الشراب الأسود.


وفي سره، كان القزم يحدث نفسه:

"ربما كنت مخطئًا… ربما لا تصلح هذه الطفلة لما أردناه. جسدها هشّ أكثر من أن يتحمل، ودمها ضعيف أكثر من أن يقوى."


لكن شيئًا ما منعه من التوقف. لم يخبر الجنيات عن تدريباته السرية، ولم يعترف بفشله أمامها. احتفظ بكل خيبة أمله في صدره، يبتلعها كما ابتلعت هي مرارة السائل الأسود. وكل ليلة، رغم بطء التغيير حتى بدا كالوهم، كان يعود ويعيد المحاولة.


كأن هناك خيطًا خفيًا يشده نحوها، يمنعه من تركها، حتى وإن بدا كل شيء بلا جدوى.


مرّت الشهور ثقيلة، والفشل يرافق الفتاة في كل تدريب. الجنيات القزمات صرن ينظرن إليها ببرود وسأم، والقزم نفسه صار يشيح بوجهه أحيانًا وكأنه يخشى مواجهة حقيقة ضعـفها. في إحدى الليالي، اجتمعوا جميعًا في الساحة الحجرية، والفتاة تقف وسطهم، تتصبب عرقًا ودموعها تلمع على وجنتيها. العصا الحجرية سقطت منها للمرة الرابعة، والجنية الموشومة ضحكت ضحكة جافة مليئة بالشفقة الممزوجة بالاحتقار.


لكن فجأة، انطفأ ضوء الأحجار الفسفورية واحدًا تلو الآخر، وغرق المكان في عتمة خانقة. ارتجّت الأرض تحت أقدامهم، وهبّت ريح باردة من الأعماق كأنها أنفاس كائن مجهول. ومن الظلام تبلورت هيئة… طويلة أول الأمر، ثم انكمشت حتى استقرّت في صورة جنية في متوسط العمر، نحيلة الجسد، بملامح جافة كالصخر، وعينين غائرتين تشعان بضياء رماديّ بارد.





تراجعت الجنيات القزمات للخلف على الفور، وارتسم الخوف على وجوههن، حتى القزم المشرف انحنى برأسه غصبًا وكأن شيئًا في حضوره يكسر الإرادة.


رفع الطيف ـ في هيئة الجنية ـ يده النحيلة، وأشار إلى الفتاة المرتجفة، ثم صرخ بصوت لم يكن صوتًا بشريًا ولا جانّيًا، بل كأنه مزيج من الريح والنار:


ـ "لقد فشلتم جميعًا! أنتم… قزم وجنيات… لم تقدّموا سوى عجزها وبكائها! هل هذا ما تسمونه تدريبًا؟!"


ارتجفت الفتاة أكثر، تساقطت دموعها وهي تنكمش على نفسها، لكن الطيف لم يرحمها. اقترب منها بخطوات بطيئة، كل خطوة يتصدع معها الحجر تحت قدميه، وصوته يجلجل في الساحة:


ـ "انهضي! احملي السيف! لن أبالي بدموعك… لن أبالي بضعفك. إن كنتِ حقًا ابنة هذا المكان… أثبتي نفسك الآن!"


ومد يده، فانشق الهواء أمامها ليظهر سيف حجري ضخم أثقل من عصاها بأضعاف. ارتعشت الفتاة وهي تنظر إليه، محاولة التراجع، لكن الطيف صرخ فيها بعنف:


ـ "امسكيه! الآن!"


مدت يدها المرتجفة، قبضت على السيف بكل ما بقي لها من قوة، لكن وزن السلاح جعل كتفيها ينخفضان وركبتيها تترنحان. انفجرت في بكاء عالٍ، عجزت عن كبحه، دموعها تنهمر وهي تهمس:


ـ "لا أستطيع… لا أستطيع…"


لكن الطيف انحنى نحوها، وجهه القاسي يقترب منها، وصوته يخترق عظامها:

ـ "لا وجود لـ (لا أستطيع). هنا إما أن تقاتلي… أو تموتي."


وفي الخلف، كان القزم والجنيات ينظرون في ذهول، لم يجرؤ أحدهم على التدخل، كأن حضور الطيف سلبهم القدرة على الحركة.


اريد من كل من يتابع هذه القصه ان يخبرنى برأيه فيها

جميله ام لا

وما جدوى الاستمرار فى نشرها


                الفصل الرابع من هنا 

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×