رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثامن 8 بقلم اسماعيل موسي
#اميرة_البحر_القرمزى
٨
انطلقت الأبواق النحاسية، معلنة بدء أول نزال.
تقدّمت خصمتها: جنية ذات ملامح كالسكاكين، شعرها الأسود مجدول بخيوط فضية، وعيناها خضراوان كزجاج مسموم. لم تكن طويلة فحسب، بل كانت تتحرك بخفة لا تتناسب مع جسدها الممشوق، كأن كل عصب فيها مشدود على نغمة لا تسمعها إلا هي.
حين التقت عيناها بعيني ليانثرا، لمحت الطفلة بريقًا من المكر.
ابتسامة دقيقة ارتسمت على شفتيها، ابتسامة لا تنذر بخير، بل بمتعة مسبقة، كأنها تعرف بالفعل كيف سينتهي هذا النزال.
ــ "سأجعلك تندمين على صعودك هنا، بشرية صغيرة."
قالتها بصوت مسموع للجميع، فتصاعد الضحك من الجمهور كعاصفة.
الرمال الفضية تحت أقدام ليانثرا كانت تتلألأ ببرود، لكنها شعرت أنها تغرق فيها. قبضت على مقبض سيفها بشدة، وابتلعت ريقها بصعوبة. في تلك اللحظة، لم يكن الخوف هو ما يثقل صدرها، بل الإهانة.
مع الإشارة، اندفعت الجنية أولًا.
كانت ضرباتها سريعة كوميض البرق، كل ضربة تهدف لا إلى القتل، بل إلى الإذلال: جرح سطحي هنا، دفع هناك، خطوة تُسقط ليانثرا أرضًا أمام الجميع.
الجماهير صاحت، بعضها صفق، آخرون قهقهوا، وآخرون بدأوا يرفعون أصوات المراهنات:
ــ "مئة قطعة فضية على سقوط الطفلة خلال دقيقة!"
ــ "ألف على أنها لن تتجاوز ثلاث ضربات!"
ــ "من يراهن أنها ستبكي؟"
كل كلمة وصلت إلى أذنيها كصفعة.
ليانثرا حاولت أن تصد الضربات كما تعلمت، لكنها فوجئت بسرعة لا تشبه أي تدريب.
الهواء نفسه بدا وكأنه ينحاز للجنية، يدفع سيفها نحو جسد الطفلة.
ومع كل عثرة، ازداد سخرية الجمهور، وازداد ثقل المراهنات التي تُلقى ضدها كأحجار.
لكن… في لحظة، وبينما كانت على وشك أن تسقط للمرة الثالثة، تذكرت عين الجرادة المغلقة.
التكتيك الذي بدا غريبًا حين علمتها إياه الجنية الجرادة، تكتيك يقتضي أن تُغلق عينيها لحظة، وتترك جسدها يتذكر بدلاً من عقلها أن يقرر.
أغمضت عينيها.
انحبس صوت الجمهور في أذنيها، وتقلص العالم كله إلى خطوات الجنية الماكرة، أنفاسها، ارتطام أقدامها بالرمال الفضية.
حين فتحت عينيها، كانت الضربة القادمة على وشك أن تهوي نحوها. رفعت سيفها بزاوية حادة، فارتطم المعدن بالمعدن بصوت شراريّ دوّى في الساحة.
الجنية ارتدت خطوة للوراء، ملامحها تلوّنت بالدهشة للحظة.
ضحكات الجمهور انقطعت فجأة، كأنهم لم يصدقوا ما رأوه.
لكن المعركة لم تنتهِ.
ليانثرا الآن في قلبها نار مختلفة، ليست نار غرور، بل نار عناد.
ورغم أن الجروح الصغيرة تنزف على ذراعيها وساقيها، وقلبها يدق بقوة حتى تشعر أنه سيشق صدرها، إلا أنها بدأت ترد الضربات. ليست قوية مثل خصمتها، لكنها باتت دقيقة، حادة، أقرب إلى دفاع يائس يوشك أن ينقلب إلى هجوم.
المراهنات تعالت مرة أخرى، هذه المرة بصوت مرتعش:
ــ "هل يمكن أن تستمر فعلًا؟!"
ــ "لا، ستسقط قريبًا!"
ــ "ربما… ربما تفاجئنا؟"
والجنية الخصم ابتسمت مجددًا، ابتسامة متوترة هذه المرة، كأنها بدأت تفهم أن هذه الطفلة لم تأتِ لتُسقط وتبكي فقط.
ليانثرا قبضت على مقبض سيفها بكل ما أوتيت من قوة، بينما خصمتها، الجنية الماكرة، وقفت بخفة تتراقص على أطراف أصابعها، سيفها الرفيع يلمع كخط من الزجاج المسنون.
انطلقت الخصمة أولًا، سريعة كوميض، وضربتها الأولى كادت أن تصيب كتف ليانثرا لولا أن الأخيرة رفعت سيفها في اللحظة الأخيرة. ارتد الصدى المعدني في القبو العلوي للساحة، فاهتز قلبها مع الصوت.
لم تترك لها الجنية وقتًا للتنفس؛ الضربات توالت، متلاحقة كالسكاكين. ليانثرا تراجعت إلى الوراء، تتعثر بخطواتها، تحاول أن ترفع سيفها لكن قوتها أضعف، وذراعاها ثقيلتان. كل ما تعلمته بدا وكأنه يتبخر أمام سرعة خصمتها.
مع ذلك… لم تسقط.
كانت تتحرك مدفوعة بشيء آخر، ليس مهارة، بل غريزة البقاء، نوع من الصمود الأعمى.
وفي لحظة مفاجئة، بينما كانت الجنية تنقض بضربة سريعة نحو عنقها، انزلقت قدم ليانثرا على الرمل الناعم. جسدها مال إلى الجانب، وسيفها ارتفع عشوائيًا كأنه يبحث عن توازن.
لكن الضربة التي كان يفترض أن تكون سقوطًا، تحولت إلى صدفة قاتلة: نصلها اصطدم بنصل خصمتها بزاوية غير متوقعة، ودفعه بعيدًا، ثم اندفع إلى الأمام ليضرب صدر الجنية بحده غير المسنون.
سقطت الجنية على الأرض، سيفها انزلق بعيدًا، وعيناها اتسعتا بدهشة كاملة.
أما ليانثرا فظلت واقفة، تلهث، لم تصدق أنها لم تهزم فقط، بل انتصرت.
يدها ما زالت ترتجف حول مقبض السيف، قلبها يقرع صدرها بعنف، وعيناها تلتقطان خصمتها وهي تتلوى بضعف، مذهولة أكثر منها مهزومة.
كان النصر قد جاء لا من براعة كاملة، بل من صدفة محضة، ومع ذلك كان نصرًا.
في الليلة التالية، حين خلد الجميع للنوم، جلست ليانثرا وحدها قرب نافذة حجرية تطل على البحيرة المظلمة. العشب المحيط بالقصر يتماوج مع الريح، والظلال تتطاول كأنها مخلوقات صامتة تحرس المكان.
ثم… جاء الصوت.
لم يكن همسًا عاديًا، ولا صرخة واضحة. بل كأنه ارتجاف داخل عظامها، نداء يلتف حول قلبها:
"إلى البحر القرمزي… تعالي إلى البحر القرمزي…"
ارتعدت ليانثرا. نظرت حولها، لا أحد. لا القزم، لا الجنيات، ولا حتى الخادمة العجوز. الصوت لم يصدر من الخارج، بل من مكانٍ بين الواقع والأحلام، كأنه ينساب من فجوة مفتوحة بين العالمين.
كرّر الصوت النداء، أبطأ هذه المرة، أكثر إلحاحًا. البحر القرمزي. لم تسمع بهذا المكان من قبل، ومع ذلك شعرت وكأنها تعرفه… كأن روحها تذكّرت ما لم تعشه يومًا.
ارتجفت أصابعها على حافة النافذة، وأغمضت عينيها لتطرد النداء، لكنه ظل يردد نفسه، موجة بعد أخرى، حتى غلبها النعاس.
صبيحة اليوم التالي، لم يكن بانتظارها نداء غامض، بل غضب أمها الجنية.
دخلت عليها في ساحة التدريب، ثوبها الأسود يتطاير خلفها كدخان ثقيل، وعيناها تقدحان ببرق من السخرية والازدراء.
قالت ببرود كالقاطع:
"أداءك كان هزيلًا. كدتِ أن تُقتلي في النزال الأول. كل ما فعلتِه هو مجرد تعثر انتهى بضربة حظ. هل تظنين أن الحظ سيقف معك مرة أخرى؟"
ليانثرا خفضت رأسها، أسنانها تعض شفتها السفلى حتى سال الدم، لكنها لم تجب.
اقتربت الأم أكثر، همست عند أذنها بنبرة حادة:
"في المعركة القادمة… سأراك تُسحقين. لا أحد ينجو مرتين. الاستعداد ليس كافيًا، وأنتِ لستِ مستعدة. موتكِ لن يفاجئني."
ثم استدارت، وتركتها واقفة وسط الساحة، محاطة بنظرات القزم والجنيات. كانت كلماتها أثقل من أي سيف.
ضجّت ساحة القصر بالصخب. الأعلام الملوّنة ارتفعت فوق الأبراج، والجان من كل الممالك تجمّعوا، أصواتهم تتداخل بين هتافات وصفير ورنين أجراس صغيرة يعلقونها في شعورهم وأذيالهم.
ليانثرا وقفت في وسط الساحة، جسدها مشدود، يدها تعرق على مقبض السيف. هذه المرة لم تكن هناك مصادفة تنقذها. خصمتها جنيّة ذات بشرة فضية وشَعر أسود طويل، تحمل سيفًا أعرض بكثير من جسدها الرشيق، وكانت تنظر إلى ليانثرا وكأنها لا ترى أمامها إلا لعبة صغيرة.
قبل أن يبدأ النزال، وبينما كانت الأبواب تُغلق حول الحلبة، التقطت عين ليانثرا شيئًا غريبًا بين الجمهور.
وجهًا واحدًا يختلف عن كل الوجوه.
كان وجهًا عجوزًا، مجعّدًا كقشرة شجرة قديمة، عيناه غائرتان لكنهما تلمعان بلون ناري. وسط الحشد الهائج، بدا ساكنًا، ثابتًا، كأن كل الصخب لا يمسه. رفع يده النحيلة ولوّح إليها، شفاهه تحركت ببطء:
"سوف تنتصرين اليوم يا فتاة… لكن ليس كل يوم."
ارتجف قلبها. لا تدري هل سمعت كلماته في الهواء أم في داخلها، لكنه اختفى فجأة وسط الجموع، كأنه لم يكن موجودًا أصلًا.
---
دوى البوق، وانطلقت الجنيّة الخصمة نحوها.
الضربة الأولى جاءت قوية، حتى إن الأرض تحت قدمي ليانثرا ارتعشت. دفعتها للخلف، والسيف كاد أن يسقط من يدها.
لكن هذه المرة لم تتراجع تمامًا.
تذكرت تدريبات الجرادة الجنية، كيف قاتلت في الظلام بلا عيون، وكيف جعلتها تحمل الصخور حتى تقوى عضلاتها. أغمضت عينيها لحظة قصيرة، ثم فتحتها من جديد، كأنها تقيس الإيقاع لا الحركة.
الجنيّة الخصمة ضحكت بصوت عالٍ، واستدارت بسيفها نحوها في ضربة جانبية قاسية. ليانثرا انخفضت فجأة، الرمال تقفز حولها، ورفعت سيفها من أسفل لأعلى بضربة مفاجئة.
لم تكن الضربة قوية بما يكفي لإسقاط الجنية، لكنها كانت مصادفة دقيقة. نصلها ضرب مفصل ذراع خصمتها في اللحظة التي كانت تفلت فيها قبضتها قليلاً. السيف الفضّي ارتفع عاليًا في الهواء، ثم سقط بعيدًا على الأرض.
خصمتها تجمدت مذهولة، بلا سلاح.
أما ليانثرا، فقد وقفت أمامها، أنفاسها متقطعة، يدها ترتجف حول مقبض سيفها الحجري، لكن النتيجة واضحة.
لقد فازت.
مرة ثانية ودون ان تقتل منافستها أعلن القاضى انتصارها
غير أن صدى كلمات العجوز ظل يرنّ في أذنها:
"سوف تنتصرين اليوم… لكن ليس كل يوم."
حين حلّ الليل، وغادر الجميع الساحة، جلست ليانثرا في إحدى قاعات القصر الفسيحة، على مقعد خشبي منحوت بأشكال لولبية، ضوء المشاعل يلتمع على جدران الحجر الداكن. كانت لا تزال تشعر بثقل السيف في يدها رغم أنها تركته منذ ساعات.
اقترب القزم منها بخطوات قصيرة، يحمل كأسًا صغيرًا من الشراب العطري وقدّمه لها. نظر إليها بعينين حادتين، وقال بصوت منخفض:
"لقد نجوتِ مرة أخرى… بطريقة لم أتوقعها."
ليانثرا رفعت نظرها نحوه، شفتاها ترتجفان قبل أن تنطق:
"رأيت وجهًا… بين الجمهور."
تجهم القزم: "وجهًا؟ أي وجه؟"
همست: "عجوز. ملامحه… كجذور متيبسة. كان يبتسم لي. ولوّح بيده وقال: سوف تنتصرين اليوم، لكن ليس كل يوم."
ساد الصمت لحظة.
القزم لم يضحك هذه المرة، لم يسخر كما كان يفعل في العادة. بل عبس بجدية مفاجئة، وانحنى قليلًا كأنه يزن الكلمات.
"وأين كان هذا العجوز؟" سأل ببطء.
ليانثرا أطرقت رأسها: "وسط الحشد. لكن حين نظرت ثانية… لم أجده. اختفى كأنه لم يكن موجودًا."
القزم أشاح بوجهه جانبًا، كأنه يخفي شيئًا. ثم جلس إلى جوارها، صوته أكثر خفوتًا:
"الأصوات… والرؤى… لا تأتيكِ عبثًا في أرض الجان. ربما هو نذير، ربما هو وعد. لكن عليكِ أن تتذكري شيئًا واحدًا يا ليانثرا: الحظ وحده لا يبني مقاتلة."
رفعت رأسها بتحدٍ طفولي: "لكنني فزت."
نظر إليها القزم طويلًا، ثم قال وهو يزفر ببطء:
"نعم، فزتِ… ولكن كل فوز يُكلّف ثمنًا. والسؤال ليس إن كنتِ ستنتصرين في المرة القادمة… بل ما الذي ستخسرينه حينها."
بقيت كلماته عالقة في قلبها كحجر ثقيل، إلى جانب ذلك الصوت الغامض الذي لا يزال يردد في أذنها:
"إلى البحر القرمزي…"