رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثاني والعشرون 22 والاخير بقلم اسماعيل موسي

رواية اميرة البحر القرمزي الفصل الثاني والعشرون 22 والاخير بقلم اسماعيل موسي

 
#اميرة_البحر_القرمزى

                ٢٢

الأخيره

تبدّل وجه العالم البحريّ،
الهدوء الذي ظلّ قرونًا يحرس أعماق البحار تلاشى، لتحلّ محله رجفة غامضة تمتد من القاع حتى الغيوم الملامسة للماء.

في البحر الأزرق، على مقربةٍ من مملكة الغرانيق المحطّمة،
اصطفت جيوش ممالك البحار السبعة كأنها جدارٌ من الكوابيس.
تقدّم صفوف القروش بقيادة باتروس، الذي جلس على صخرةٍ ضخمة تتلألأ فوقها فقاعاتٌ من دمٍ وأسنان،
تحيط به أسراب الحيّات البحرية، والسلحفاة الحديدية من مملكة الصدف،
وحشود السرطانات العملاقة التي تحمل فوق ظهورها منصّات من المرجان المسلح.

كانت بوابات مملكة الغرانيق، تلك التي شُيّدت من الأصداف البيضاء والعاج الأزرق، تومض بوميضٍ خافتٍ كأنها تستعدّ للانفجار.
من خلفها، وقف ما تبقى من الغرنيقات المحاربات في صفوفٍ منضبطة، كلّ واحدةٍ تحمل رمحها المصنوع من عظام الحيتان القديمة.
وعلى العرش المائل وسط الأنقاض، جلست ليانثرا
عيونها تشعّ بالضوء القرمزيّ الذي ورثته عن عشبة النهايات.

رفعت رمحها ببطء، وصوتها دوّى عبر التيارات:

> "ليأتِ البحر كله إن أراد!
لن يطأ الغزاة أرض الغرانيق ما دمت أتنفس!"

ثم أمرت جنودها بنصب الحواجز المرجانية، واستدعاء عواصف المدّ التي تُثار بتعويذةٍ لا تُستخدم إلا في حروب الوجود.
الماء غدا أثقل، والضوء انكسر كأن الزمن نفسه يستعدّ للاشتعال.

في الأفق، كان باتروس يبتسم ابتسامةً لا تُرى إلا في عيون المفترسين،
وقال للحشود التي تصرخ باسمه:

> "احملوا رؤوس الغرانيق إلى قصري،
لن يبقى في البحر الأزرق من يعارض ملكى الجديد 

صمت الماء لحظة، قبل أن يبدأ الزحف الكبير.

---

وفي الوقت ذاته،
على اليابسة، فوق حدود الغابات المضيئة،
كان جيش ملك الجان قد أتمّ تطويقه الكامل لمملكة الأمير مونت كارلو.
اصطفت الفيالق في صفوفٍ هائلة تمتدّ من جبال البارسن حتى السهول المغمورة.
جنود الملك يلبسون دروعًا من ضوءٍ أخضر، تحمل نقوشًا من لعناتٍ قديمة،
وعلى مقدّمتهم يقف الدارون، مستشار الملك، حاملاً راية الحرب التي لم تُرفع منذ ألف عام.

ارتجّت الأرض تحت وقع خطوات الكتائب،
وأشرقت السماء بضوءٍ أزرق متوهّجٍ يصدر عن بوابات الجان وهي تُفتح للمرة الأولى منذ قرون.
ومن بعيد، كانت الأبراج الفضية لمملكة مونت كارلو تلمع في الأفق، صامتةً كقلبٍ ينتظر الطعنة.

في قصر البحر الفضي، وقف الأمير مونت كارلو إلى جانب الأميرة المنفيّة،
ينظران من الشرفة إلى السماء التي تمزّقها أجنحة الجان الحربية.
قال بصوتٍ مبحوح:

> "لقد بدأ الأمر

أجابته الأميرة، ودمعةٌ تتوهج على خدّها:

> "اللعنات التي صنعها الملوك… يدفع ثمنها الأبرياء دائماً."

وفي تلك اللحظة، انقسم العالم إلى نصفين:
نصفٌ يغلي بالماء والدم تحت البحر الأزرق،
ونصفٌ يتأهب للدمار على اليابسة بين ممالك الجان.

كأن القدر نفسه قد قرر أن يختبر صمود الحلم الأخير،
الذي جمع القزم، والأمير، والفتاة، والأميرة المنفيّة،
في مواجهة حروبٍ لا تشبه سوى نهاية العصور.

تزلزلت الأرض وارتجّت السموات،
حين دوّى القرن العظيم في سماء مملكة مونت كارلو معلنًا اندلاع الحرب.

على أسوار القصر الفضّي،
كانت الراجمات التي ابتكرها القزم فانتر تصبّ حممها الناريّة بلا انقطاع،
قذائفٌ من لهبٍ ممزوجٍ بالحديد تنطلق لتسقط على صفوف جيش ملك الجان،
تحرق الدروع وتحوّل الأرض إلى رمادٍ يغلي.
أصوات الانفجارات كانت تصمّ الآذان،
والسماء تشتعل بضوءٍ أحمر كأنها تنزف هي الأخرى.

وقف الأمير مونت كارلو على السور الأعلى،
درعه مصقول وعباءته ممزقة من شظايا الحرب،
يصدر أوامره بثباتٍ لا يعرف التردد:

> "ارفعوا اللهب إلى الممر الجنوبي! لا تدعوهم يقتربون من البوابة الثالثة!"

على مقربةٍ منه كان القزم فانتر يركض بين الراجمات،
ينفخ في الصمامات بلهاثٍ حادّ، يصيح بالجنود:

> "زيدوا من ضغط البخار! النار لا ترحم سوى من يُشعلها!"

تحت الأسوار، تدفقت جيوش الجان كطوفانٍ من الظلال،
رجال الملك يمتطون الوحوش الليلية،
خيولًا بعشرة أعينٍ وذيولٍ من شرر، تصهل فتتزلزل الحجارة.
كان الدارون يقودهم من الأمام، يرفع راية الملك ويهتف:

> "لا تبقوا لهم حجراً ولا ظلًّا، أعيدوا الأميرة إلى أبيها!"

لكن القذائف النارية فتحت فجواتٍ في صفوفهم،
وجعلت اللهيب يمتدّ كأنه روحٌ من نارٍ تحرس المملكة.
الأسوار صمدت، ولكن الأرض تحتها ارتجفت من شدّة الزحف.
لم تكن الحرب بعد في ذروتها… كانت فقط البداية.

---

وفي الأعماق،
تزامن هدير القذائف مع انفجار الماء في البحر الأزرق.
من تحت الأمواج المضيئة، تقدمت جيوش السلاحف العملاقة،
دروعها الصخرية تلمع كبقعٍ من الليل،
تحمل فوقها السرطانات الحديدية التي تجرّ عرباتٍ من المرجان المحصّن.
كانت تلك هي مقدمة جيش البحار السبعة، بقيادة باتروس،
الذي تقدّم من الخلف يحيط به سرب القروش السوداء.

من على قمّة الشعاب، وقفت ليانثرا،
جسدها يشعّ بطاقةٍ سماوية، شعرها يتطاير مع تيار الماء،
وصوتها يخترق الصمت كجرسٍ غارقٍ في الهاوية.
رفعت رمحها، فاهتزت الأمواج حولها واصطفت الغرنيقات خلفها في صفوفٍ منضبطة.

> "دافعوا عن البحر الذي وُلدتم فيه!
لا تتركوا الدرن يغمر أجنحتكم!"

اندفعت الغرنيقات كأعمدةٍ من نورٍ مزرقّ،
لتصطدم بدروع السلاحف التي بدت كجبالٍ تتحرك.
لكن ليانثرا أغلقت عينيها، وشعرت بالقوة القديمة داخلها تستيقظ.
ضربت الرمح في قاع البحر، فانفجرت دوامة هائلة التهمت الصفوف الأمامية من السرطانات.
تحطمت الأصداف، وتطايرت الشظايا بين التيارات.

كانت تكتيكات جيش السلاحف تعتمد على التقدم البطيء المنظّم،
يتشكل كل صفٍّ من ثلاث سلاحف تحتمي بينها كتيبة من السرطانات تحمل الرماح الطويلة،
وحين يحاول العدو الاقتراب، تُغلق السلاحف دروعها في شكل نصف قبةٍ قاتلة،
بينما تنقض السرطانات من الأسفل بخطافها القاطع.

لكن ليانثرا كانت أسرع من أن تُحاصر.
بضربةٍ واحدة من رمحها، فتحت صدعًا في صفوفهم،
ثم اندفعت بين التيارات كوميض برقٍ تحت الماء،
تحرّك جسدها الجديد بخفةٍ مذهلة،
تدور، وتضرب، وتغيب في الدوامات تاركةً وراءها خطوطًا من الفقاعات والدماء.

رفعت الغرنيقات أصواتهن بأغنية الحرب القديمة،
فاهتزّت المياه مع النغم،
وتحوّلت المعركة إلى أوركسترا هائلة من الصراخ والضوء والدم.

حينها صاح باتروس غاضبًا من الخلف:

> "اقطعوا زعانفها! إنها ليست غرنيقة، إنها شيطانة!"

لكن ليانثرا كانت قد صارت ما يخشاه كل مخلوقٍ في البحر،
قوةً خارجة عن الفهم،
تتحرك بلا رحمة كأن البحر نفسه قد اختارها لتكون سيفه.

وفي الأعلى، فوق سطح البحر المائج،
كان ضوء القمر يلمع على أمواجٍ تشتعل بالدماء،
تمامًا كما كان اللهيب يضيء سماء مملكة مونت كارلو البعيدة.

البر والبحر اشتعلا في اللحظة ذاتها…
كأن العالم كله دخل حربًا واحدة ذات وجهين.

تدافعت الظلال من كل حدبٍ وصوب،
وانشقّ الليل عن جحافل الجان الزاحفة نحو أسوار مملكة مونت كارلو.
كان هديرهم كهدير العاصفة،
وأعينهم تشتعل كبقايا جمرٍ في الريح،
يحملون سيوفًا مقوسة تتقطر سُمًّا،
ويمتطون مخلوقاتٍ خرجت من رحم الكوابيس:
خيولًا بلا عيون، ذئابًا بقرون، وطائراتٍ من العظام تحلق في العتمة.

تقدّم الموتى السائرون أولاً،
جثثٌ نهضت من المقابر الملكية القديمة،
يُقادون بخيوطٍ من السحر الأسود،
تتدلّى من أصابع كهنة الجان الواقفين في الخلف.
كل جثةٍ تحمل درعها الصدئ وسيفها المكسور،
لكنها تمضي ببطءٍ مروّعٍ نحو الأسوار، لا صوت لها إلا احتكاك الحديد بالعظم.

حين دقت طبول الحرب للمرة الثانية،
ارتفعت السلالم الخشبية على طول السور،
تلتفّ حولها الكائنات المهاجمة كأمواجٍ من اللحم.
اصطدمت الدروع بالأسلحة،
وتناثرت الشرارات في الهواء،
وصار ليل مملكة مونت كارلو جحيماً متوهجاً.

من فوق الأسوار،
أطلق القزم فانتر صفارةً حادة، فاندفعت راجمات اللهب لتقذف من جديد.
لكن الزحف كان كثيفًا،
حتى النار بدأت تفقد معناها أمام هذا السواد الزاحف الذي لا يموت.

صرخ أحد القادة من الصفوف العليا:

> "لقد وصلوا إلى البوابة الغربية! أوقفوهم!"

قفز الجنود من فوق الأسوار،
اشتعلت المعركة على الحجارة نفسها،
حرابٌ تُغرس في الصدور،
وسيوفٌ تلمع ثم تختفي داخل اللحم.
كان كلّ مترٍ من الأرض يُشترى بالدم،
وكلّ صرخةٍ تذوب وسط هدير النار.

على الجانب الآخر من السور،
كان الدارون يلوّح بعصاه السوداء،
فتتساقط الأقنعة عن وجوه الجان،
لتكشف عن مخلوقاتٍ نصفها بشرٌ ونصفها رماد.
رفع يده، فأمطرت السماء رملاً أسود يحرق الجلد والعين،
وبين الضباب والنار، بدأت الحرب الحقيقية — حرب البقاء.

---

وفي البحر الأزرق،
كانت ليانثرا تخوض معركتها الثانية،
لكن هذه المرّة لم تكن السماء فوقها، بل الأعماق كلها ضدها.

من جهة الشرق،
ظهرت سفن المرجان التابعة لممالك البحار السبع،
سفنٌ لا تبحر على الماء، بل تزحف تحته،
تحمل على ظهرها مدافع من العظم وعيونًا تراقب من داخل الصخور.

ومن الغرب،
اندفعت السلاحف العملاقة بأفواهٍ مفتوحة تقذف تياراتٍ من الطين الساخن،
بينما جاءت السرطانات الحديدية من الأسفل،
تحفر بأنيابها الحادة أنفاقًا حول الغرنيقات لتطويقهنّ.

وجدت ليانثرا نفسها محاصرة،
الغرنيقات يتساقطن الواحدة تلو الأخرى،
وأغانيهنّ الحربية تحوّلت إلى نداءاتٍ للاستغاثة.
كانت المياه تموج بأشباح الضوء والدم،
والهجوم لا يتوقف،
حتى بدا البحر نفسه عدوًا لها.

صرخت ليانثرا وهي ترفع رمحها نحو الأعلى،
لكن التيار المضاد أسقطها أرضًا،
جسدها ارتطم بالشعاب،
ونورها بدأ يخفت.

اقتربت منها السلاحف،
عيونها اللامعة تراقبها ككائنٍ محكومٍ عليه بالفناء.
مدّ أحد ملوك البحر صوته من بعيد عبر الأمواج:

> "انتهى عهد الغرنيقات… البحر لنا!"

لكن فجأة،
اهتزّت الأعماق كلها بصوتٍ لا يشبه شيئًا سمعه أحد من قبل،
كأنه زئير جبلٍ تحت الماء.

تشققت الأرض،
ومن بين الانقاض خرج غول البحر،
عملاقٌ من الطين والأصداف،
عيناه كشموسٍ زرقاء،
وسلاسل المرجان تلتفّ حول جسده كالأغلال.

ضرب بقبضته قاع البحر،
فتناثرت السلاحف كالحصى،
وانقلبت المراكب فوق رؤوس قادتها.

تقدّم الغول نحو ليانثرا،
ووقف بجانبها كما يقف الجبل إلى جوار الشعلة الصغيرة،
وقال بصوتٍ غليظٍ كهدير المحيط:

> "ليس البحر لكِ وحدكِ، يا بنت الضوء…
لكنه ليس لهم أيضًا."

ابتسمت ليانثرا وسط الدماء والتيارات،
ورفعت رمحها مجددًا،
وقد عاد النور إلى عينيها.
فمن تلك اللحظة، لم تعد وحدها في المعركة.

كان الليل في أرض مونت كارلو قد صار ثقيلاً كالمعدن المنصهر،
تختنق تحته النجوم كما لو أنها لا تجرؤ على النظر إلى الحرب الدائرة.
وفي أعماق الحصن الحجري، حيث تهدأ أصوات السيوف قليلاً،
جلس القزم فانتر أمام موقدٍ أزرق، تتراقص نيرانه كألسنةٍ من وعيٍ آخر.

كان وحده،
إلا أن عقله لم يكن كذلك.
منذ ساعاتٍ، بدأ يسمع أصواتًا لا تنتمي لهذا العالم:
صرخاتٍ مكتومة، صدى معاركٍ بعيدة، اسمٌ يتردد بين الأمواج —
ليانثرا.

في البداية ظنها وهماً،
لكن الأصوات اتخذت شكلاً أكثر وضوحًا،
كأنها تصل من مسافة لا تقاس بالأميال، بل بالأكوان.
جلس القزم على الأرض، وضع يده على جبينه، وأغلق عينيه.
حينها فقط، رأى.

رأى البحر الأزرق،
ورأى ليانثرا وسط الزبد والدماء،
ورأى السلاحف العملاقة والسرطانات تحاصرها،
ورأى غول البحر ينهض إلى جوارها.
كانت الحرب تشتعل هناك — في عالمٍ آخر.

---

فتح فانتر عينيه ببطءٍ،
والنور من حوله تغيّر، كأن شيئاً تحرك في نسيج الهواء نفسه.
ابتسم القزم لنفسه، وقال همسًا:

> "إذن، الأكوان ليست متوازية فقط… بل متصلة أيضاً."

في كتب الجان القديمة التي قرأها داخل مكتبة الأميرة المنفية،
كانت هناك نظرية تُدعى «تشابك الأبعاد»،
تقول إن كل كونٍ ليس نسخةً عن الآخر،
بل انعكاسٌ متحوّل له —
أي إن حدثًا في عالمٍ واحدٍ يمكن أن يصنع تموجًا صغيرًا في عوالم أخرى،
مثلما تهتز كل قطرات المطر حين تسقط إحداها في بحيرة ساكنة.

كتب فانتر معادلة غريبة على الأرض بحبرٍ من دم التنين،
دوائر متداخلة، وخطوط متقطعة تمثل نقاط الالتقاء بين الأكوان.
ثم بدأ يتلو تعاويذ لم يسمعها أحد منذ قرون،
كلمات من اللغة الجنيّة الأولى، تلك التي لا تُقال بل تُفكّر.

ارتجّ المكان.
بدأ الهواء يلتف حوله كما يلتف الماء حول نفسه،
وسُمع صريرٌ يشبه صوت انشقاق الزمان.

ظهرت أمامه دائرة من الضوء المتقزّح،
تتماوج داخلها صور الحرب:
ليانثرا تقاتل، غول البحر يزمجر،
وجيوش ممالك البحار تضرب بلا رحمة.

قال القزم وهو يبتسم بشراسة:

> "إن لم نستطع الذهاب إلى عالمها…
فليأتِ عالمها إلينا."

---

في لحظةٍ واحدة،
تمدّدت البوابة كفمٍ من الضوء،
وامتدّت بين الأرض والماء، بين الهواء والملح،
حتى صارت جسرًا من الطاقة النقية،
يربط الكون البري الذي يعيش فيه الأمير مونت كارلو
بـ الكون المائي الذي تخوض فيه ليانثرا حربها.

كان ذلك حدثًا علميًا وسحريًا في آنٍ واحد،
يُسمّى في كتب الجان «تداخل المرايا الكونية».
حين تتطابق الذبذبات الطاقية بين عالمين —
عالم النار وعالم الماء —
يمكن أن يفتح الساحر بوابة تسمح بمرور الموجات الحيّة،
أي الوعي والوجود المادي معًا،
كما لو أن الجندي في عالمٍ واحد يرى ظله يقاتل في الآخر.

---

وبالفعل، حين رفع الأمير مونت كارلو سيفه فوق الأسوار،
شعر بأن الهواء أمامه يتموج كما لو كان مرآة من السائل.
اندفعت راجمات اللهب التي صنعها القزم،
لكنها لم تصب أعداء الجان هذه المرة —
بل خرجت من الجانب الآخر للبوابة،
لتسقط ككراتٍ نارية فوق جيوش القروش في البحر الأزرق.

وفي المقابل،
عندما ضرب غول البحر قبضته في قاع البحر،
تشققت الأرض في عالم مونت كارلو،
فانهارت صفوف الموتى السائرين.

لقد صار العالمان متداخلين.
كان الجندي الذي يقاتل على اليابسة يشعر بأن الأمواج تضرب وجهه،
والغرنيقة في البحر تشعر بحرارة اللهب على جلدها.

صرخ فانتر وسط العاصفة المزدوجة:

> "لقد أصبحتم جيشًا واحدًا!
الأرض والبحر الآن… يتنفسان معًا!"

---

في تلك الليلة،
لم يكن هناك فصل بين السماء والماء،
ولا بين الجان والبشر،
ولا بين مملكة مونت كارلو ومملكة الغرانيق.

كانت الأكوان جميعها، للحظةٍ نادرة،
قد انحنت على نفسها،
لتسمح للقدر أن يُعيد ترتيب خرائط الحرب.

وبين تلك الخرائط،
كانت ليانثرا تقاتل إلى جوار الأمير مونت كارلو —
رغم أن كلّ واحدٍ منهما
كان يقف في عالمٍ آخر.

تحت سماءٍ مشقوقة بين عالمين، انفتحت البوابة التي صنعها القزم فانتر على مصراعيها،
وامتزج ضوءها الأزرق بضوء الحرب، فصار البحر مرآةً للسماء، والسماء بحرًا لا نهاية له.
وفي تلك اللحظة الغريبة،
انهار الفصل بين الأكوان —
وصارت ليانثرا والأمير مونت كارلو يقاتلان كتفًا إلى كتف،
رغم أن أحدهما يقف في أعماق البحر الأزرق،
والآخر على أسوار الحصون الحجرية لأرض الجان.

---

كانت ليانثرا أول من شعر بالقوة الجديدة تتدفق في جسدها.
العشبة التي ابتلعتها في معركة الغرانيق القديمة بدأت تشتعل في عروقها من جديد،
لكن هذه المرة كانت الطاقة تسري من البوابة نفسها،
كما لو أن الضوء القادم من عالم مونت كارلو يغذيها بطاقة نارية لم يعرفها البحر من قبل.

أطلقت زئيرًا بحريًا اخترق الموج،
فارتجّت صفوف جيش ملك الجان على الأرض في اللحظة ذاتها،
وسقطت أسلحة الجنود من أيديهم،
كأن صوتها جاءهم من السماء لا من الأعماق.

مدّت ذراعيها، واندفعت وسط جيش ملك البحار شرباخ،
ذلك الملك الذي لطالما ظن أن البحر الأزرق خاضعٌ لقانونه وحده.
لكنها كانت تسير بين صفوفه كإعصارٍ من الضوء والماء،
كل ضربة من ذيلها كانت تكسر دروعًا كأنها من الزجاج،
كل حركة من ذراعها كانت تمزق أسراب السرطانات العملاقة
التي حاولت إيقافها بلا جدوى.

وحين حاول شرباخ أن يوقفها بتعاويذه القديمة،
انكسرت التعاويذ على جلدها كما تنكسر الموجة على صخرة.
قالت له بصوتٍ هادر:

> "انتهى زمن الملوك… البحر لا يحكمه أحد بعد الآن."

ثم ضربت الماء بذيلها،
فانقسم البحر نصفين للحظةٍ خاطفة،
كأنها شقت قلب المحيط ذاته.
ومن الفتحة الهائلة اندفعت موجةٌ صاعقة،
حملت معها بقايا جيشه إلى الأعماق،
حيث لم يُعرف لهم أثر بعدها.

---

وفي العالم الآخر،
كانت قوى ليانثرا تتردد كرجع الصدى عبر البوابة،
تصل إلى جيش الأمير مونت كارلو كدفقةٍ من النور والطاقة.
فاشتعلت راجمات اللهب بقوةٍ لم يسبق أن رآها القزم من قبل،
وأمطرت السماء حممًا على جحافل ملك الجان.

تكسّرت صفوف الموتى السائرين،
وأُحرقت وحوش الظلال التي كانت تزحف على الأسوار.
كان الأمير مونت كارلو في المقدمة،
سيفه يتوهج بضوءٍ أزرق يشبه وهج البوابة،
يضرب أعداءه كمن يفتح طريقًا نحو قدرٍ لا مفر منه.

وحين حاول ملك الجان نفسه أن يتدخل،
رفع الأمير سيفه نحو السماء وقال بصوتٍ تردد صداه بين العالمين:

> "هذه الأرض… ليست لملكٍ واحدٍ بعد اليوم!"

في اللحظة ذاتها،
امتدت صورة ليانثرا عبر البوابة خلفه،
كأنها ظله المائي،
فضرب كلاهما في الوقت نفسه —
ضربة في البحر، وضربة على الأرض.
التقت الضربتان في منتصف البوابة،
وانفجرتا في وميضٍ جعل العالمين يهتزان كوترٍ واحد.

---

سقط جيش ملك الجان في فوضى عارمة،
تدافعت جيوشه هاربة،
وتلاشت سحره أمام الطاقة الكونية التي خلقتها ليانثرا ومونت كارلو معًا.
أما في البحر، فقد انهار عرش شرباخ من المرجان الأسود،
وتبدّد صوته في المياه المظلمة.

عندما هدأت العواصف،
كان البحر الأزرق صافيًا لأول مرة منذ قرون،
والأرض في مملكة مونت كارلو تفوح منها رائحة المطر لا الدخان.

---

جلس القزم فانتر على الأرض، يلهث.
البوابة بدأت تنكمش، والضوء يخبو ببطءٍ،
لكن وجهه كان يبتسم، عيناه تلمعان ببريقٍ غريب.
قال هامسًا لنفسه:

> "لقد تداخلت الأكوان… وتعلمت أن الحدود بين العوالم
لا يرسمها الزمان أو المكان،
بل من يؤمن أن الاتصال ممكن."

أما ليانثرا،
فكانت تقف فوق أطلال عرش شرباخ،
تنظر إلى السماء وقد انفتحت فيها شقوقٌ من نور،
تُرى من خلالها مملكة مونت كارلو البعيدة.

رفعت يدها، فامتد إليها ضوءٌ من العالم الآخر،
كأن القدر نفسه يعترف بها ملكةً على البحر الأزرق —
ورمزًا لقوةٍ لا تنتمي إلى عالمٍ واحدٍ فقط،
بل إلى كل الأكوان المتداخلة.

هدأ البحر بعد عاصفةٍ امتدت بين العوالم، كأن الكون نفسه تنفّس الصعداء بعد حربٍ أنهكت الماء والأرض والسماء.
في الأعماق، كانت ليانثرا تسبح وسط بقايا مملكة الغرانيق،
تُحيط بها جنودها اللواتي نهضن من الرماد، وعيونهن تتلألأ بندى النصر.
لم يعد هناك أثرٌ لعرش شرباخ، ولا لتاج ملوك البحار السبعة.
فالبحر الأزرق، الذي لطالما كان مسرحًا للطغيان،
بات اليوم يعرف اسمًا واحدًا يهابه ويقدّسه في آن:
الملكة ليانثرا.

اجتمعت الغرانيقات حولها عند أطلال العرش المرجانيّ المتهدم،
ورفعن أصواتهن في ترنيمةٍ قديمة لم تُغنَّ منذ آلاف السنين،
ترنيمة التنصيب التي لا تُقال إلا لملكةٍ خُلقت من معجزة.
أشعة الشمس تسللت من سطح البحر، وانكسرت على جلدها اللامع الجديد،
فبدا كأن البحر كله ينحني احترامًا لها.

في تلك اللحظة،
شعرت ليانثرا بقلبها يخفق كما لم يخفق من قبل —
كان دفينًا فيها الحنين إلى الأرض، إلى صوت البشر وأنفاسهم،
لكنها أدركت أن القدر قد رسم لها طريقًا آخر.
هي الآن ملكة البحر الأزرق،
وابنة موجٍ لا يعرف الشاطئ،
وسيدة العوالم الغارقة.

---

أما في عالم الأرض،
فقد انتهت الحرب على أسوار مملكة مونت كارلو بانهيار جيوش ملك الجان.
النيران التي أطلقها القزم فانتر من راجمات الحصون
جعلت السماء تمطر شظايا نارية
ألقت الرعب في صفوف الوحوش والموتى السائرين.
عندما رأى ملك الجان قواته تتساقط كالأوراق المحترقة،
صرخ بألمٍ وغضب، ثم أمر بالانسحاب.
اختفى في دخانٍ أزرق كثيف،
متوعدًا بأن “هذا ليس الوداع الأخير”،
لكن الأرض لم تسمع صوته بعدها قط.

القلعة عادت صامتة بعد ضجيج المعارك،
والأمير مونت كارلو وقف على الأسوار، ينظر إلى الأفق،
حيث بدأت الشمس تشرق للمرة الأولى بلا دخان.

---

وفي قاعة العرش بعد أسابيع قليلة،
تحوّلت مملكة مونت كارلو إلى مهرجانٍ من النور.
الرايات تُرفرف، الأجراس تدق، والعطور تملأ الممرات.
كانت الأميرة المنفيّة تمشي بثوبٍ أبيض من نسيج ضوء،
عيناها تدمعان، لا من الحزن هذه المرّة، بل من تصديق الحلم.
على العرش المذهب جلس الأمير، مبتسمًا،
ينتظرها ليعلن أمام الجان والبشر والمخلوقات جميعًا
أنها ستكون ملكة أرضه وقلبه.

حتى الغرانيقات جئن من البحر لحضور الزفاف.
تقدمت ليانثرا بينهن في هيئةٍ مهيبة،
جسدها نصفه امرأة ونصفه غرنيقة،
تتوهج حولها الفقاعات كالنجوم الصغيرة.
انحنت تحيةً، فغمرت المياه مدخل القصر،
ثم باركت العروسين بصوتٍ يشبه غناء المد والجزر.

قالت هامسةً للأميرة المنفيّة:

> “لقد أُعيد لكِ ما سُلِبَ منكِ... أما أنا،
فقد أخذ البحر نصيبي، ولن يرده إلا البحر نفسه.”

ابتسم الأمير مونت كارلو بحزنٍ دافئ وقال:

> “ستبقى قصتكِ خالدة بيننا يا ليانثرا.”

ثم رفعت يدها، فاشتعلت حولهم قطراتٌ من الضوء،
كأن البحر نفسه يصفّق للعشق المنتصر.

---

وبعد الحفل،
وقفت ليانثرا على الشاطئ وحدها،
تتأمل القمر ينساب على وجه البحر الأزرق.
كان جسدها قد تغيّر تمامًا —
ذيلها الفضي الطويل يعكس ضوء القمر،
وعيناها صارتا عميقتين كهاويتين من لؤلؤٍ وأسرار.
مدّت يدها إلى صدرها،
شعرت بنبضٍ لا يشبه نبض البشر،
بل إيقاعًا أزليًا يتناغم مع الموج.

قالت بصوتٍ بالكاد يُسمع:

> “ربما أستطيع العودة يومًا...
لكن تلك قصة أخرى.”

ثم غاصت في الماء بخفةٍ ملكةٍ تعرف مصيرها،
واختفى وميضها شيئًا فشيئًا في أعماق البحر الأزرق،
بينما ظل القمر يراقبها من عليائه،
يشهد نهاية حكايةٍ بدأت بالهروب من قصر،
وانتهت بامرأةٍ صارت أسطورة العوالم كلها.

---

وهكذا خُتمت الحكاية —
بانتصار البحر والأرض،
وباتحاد الجان والبشر والموج،
وبامرأةٍ اسمها ليانثرا
جعلت المستحيل ممكنًا،
ثم رحلت في صمتٍ نبيلٍ لا يعرفه سوى الملوك الحقيقيين.
تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×