رواية شقة البخاري الفصل السابع عشر 17 بقلم اسماعيل موسي
#شقة_البخارى
١٧
الصدى
وصلت سماح إلى بيت أخيها قرابة منتصف الليل. لم تكن تبكي، لكنها كانت تحمل التعب في عينيها.
وضعت حقيبتها في زاوية الصالة، ودخلت دون أن تنطق بكلمة. أختها-in-law سألتها إن كانت جائعة، لكن سماح فقط هزّت رأسها وجلست على الأريكة.
مرت دقائق، ثم أخرجت شيئًا من حقيبتها:
الكتاب الأول.
الذي قرأته وندمت.
الذي غير نظرتها لكل شيء.
فتحته، على الصفحة التي كانت تظن أنها حُفرت في ذاكرتها، لكنها وجدت كلمات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
> "إن تركته وحده، سيفتح الباب.
وإن فتح الباب،
لن يعود هو."
انكمشت يدها حول الغلاف، وحاولت أن تقنع نفسها أنها تتخيل.
لكن الصفحة التالية كانت أكثر غرابة.
كانت صفحة بيضاء، ثم بدأت الكلمات تُكتب أمامها، كما لو أن شخصًا ما يمليها:
> "مرحبًا، سماح.
أنتِ الآن في بيت أخيك، الدور الرابع، الشباك بجوار شجرة الكافور… أليس كذلك؟
ظننتِ أنكِ تركتِنا؟
الكتاب لا يُترك.
المرقد لا ينسى."
تجمد الدم في عروقها، وسمعت فجأة مواء القطة من خلف النافذة.
لكنها لم تكن قطة.
لم تكن تتنفس.
كانت تُحدق.
**
قفز قلب سماح حين دقّ أحدهم الباب بقوة مفاجئة.
فتحه أخوها، ثم عاد باستغراب: "مفيش حد؟ بس لقينا دي عند الباب."
أعطاها ورقة مطوية بعناية، كأنها خرجت من زمن آخر.
فتحتها سماح ببطء… وكانت هناك صورة.
صورة قديمة بالأبيض والأسود.
فيها… أحمد.
طفل صغير.
واقف أمام باب مغلق،
والرجل الواقف خلفه، يضع يده على كتفه، كان هو نفسه…
البخاري.
**
سماح شهقت بصوت مسموع. الورقة احترقت من تلقاء نفسها بين يديها، تاركة فقط رائحة غريبة…
مزيج من الورق العتيق… والموت.
ثم سمعت الهمسة من مكانٍ ما داخل البيت:
> "لو هو فعلاً أخي…
هفتحه."
وقف أحمد أمام باب الغرفة، يده تلامس المقبض البارد، والكتاب الثاني مفتوح خلفه، صفحاته ترتجف من تلقاء نفسها.
أغمض عينيه وهمس:
> "مرقد البخاري… افتح."
ومع الكلمة الأخيرة، سمع صوت تكة خافتة.
المقبض تحرك قليلاً.
انفتح الباب.
كانت الرائحة أول ما استقبله.
مزيج من الورق المحترق، والحديد الصدئ، والورد الميت.
ثم الظلام…
ظلام كثيف ليس فيه جدران واضحة، بل ضباب رمادي يزحف على الأرض.
خطا خطوة للداخل.
سمع همسات متقطعة، كأن الجدران تتنفس:
> "أنت متأخر…
العهد كُسر عندما وُضع الكتابان في أيدي البشر.
وأنت… وريث الخطيئة."
تراجع أحمد خطوة، لكن الباب انغلق خلفه.
---
في شقة أخيها، كان الكتاب الأول يهتز فجأة.
سماح وقفت مذعورة.
صفحة جديدة فتحت بنفسها.
فيها صورة:
أحمد واقف وسط غرفة مشوهة، والضباب يلتف حول رقبته.
والجملة الوحيدة:
> "لو فُتح المرقد دون طقسه… سيتحرر من لا يجب أن يُحرر."
سماح شهقت، وهمست:
> "طقس؟ أي طقس؟"
أجابها الكتاب من تلقاء نفسه:
> "الطقس يبدأ باسم، وينتهي بدم.
لكنك تأخرتِ… وها قد فُتح الباب.*"
لم يكن اسم "البخاري" مجرد اسم مستعار لرجل ظهر واختفى كظل في عمارة غريبة.
كان الاسم ختمًا. وكان الرجل… وصيًّا على النسيان.
ولد البخاري منذ قرون، لا أحد يعرف اسمه الحقيقي.
كان من أوائل من قرؤوا "الكتاب الأول"، وكان الغرض من الكتاب وقتها بسيطًا: حفظ الأسرار، وردع من يحاول فتح ما لا يُفترض فتحه.
لكنه انقلب.
في أحد الطقوس الممنوعة، قرأ البخاري جملة محرّمة في قلب الكتاب:
> "من ينطق اسم النائم في المرقد، يشاركه حتفه… أو يستبدله."
ولأنه كان يسعى للخلود، حاول استبدال روحه بروح "النائم"، وهو كيان لم يكن بشريًا تمامًا، ولا شيطانيًا بالكامل… بل مزيج من بقايا العهود القديمة قبل تقويم الزمن.
فشل الطقس.
لكنه لم يمت.
سُجن في جسده، ودُفن في غرفة أُغلقت بثلاثة عهود:
عهد الصمت، عهد الدم، وعهد النسيان.
المرقد لم يكن قبرًا ولا غرفة.
كان تابوتًا واقفًا، يحيط بجسد البخاري المتجمد، المربوط بسلاسل من الحبر القديم.
وكان على من يسكن الشقة أن يحافظ على العهد:
لا فتح، لا اقتراب، لا فضول.
لكن الكتاب الثاني…
الذي ظهر بعد أن حاولت قوى خفية محو أثر الكتاب الأول… كان يريد العكس.
كان يريد استكمال الطقس.
ولأحمد، كان مجرد فضول.