رواية جبروت في قلب صعيدي الفصل الثامن 8 بقلم نور الشامي
الفصل الثامن
جبروت في قلب صعيدي
ساد الصمت الرهيب أرجاء المستشفى ولم يكن يسمع سوى صوت أنفاس متقطعة وأنين مكتوم يتسرب من الحناجر المرتجفة في ركن الممر وكانت سحابة واقفة كأنما انتزعت منها الحياة.. تضع يديها على صدرها في محاولة يائسة لتهدئة نبضات قلبها المتسارعة بينما عيناها لا تفارقان باب غرفة الطوارئ المغلق وأسد كان يسير ذهابا وايابا بعصبية ظاهرة يضع يده على رأسه تارة ويشد شعره تارة أخرى ويتلفت بقلق، وكأن الانتظار يفتك به وعلى المقاعد جلسوا الجميع بقلق وخوف وفجأة، انفتح باب الغرفة بخفة وخرج الطبيب بخطوات بطيئة ووجهه شاحب ونظراته حزينة فـ تقدم أسد نحوه بسرعة ووقف أمامه وصوته خرج متهدجا مملوءا برجاء :
ابني كويس يا حكيم ؟! طمني بالله عليك... جول انه كويس
تنهد الطبيب بحرقة ثم قال بصوت خفيض وكأنه يعتذر:
ربنا يرحمه يا أسد... الطلب وجف... وكل المحاولات منجحتش للاسف
سقطت الكلمات على الجميع كالصاعقة فتجمدت الأنفاس وخيم الصمت الثقيل فنظرت سحابة لم تصدق ما سمعته وصرخت بصوت مجروح:
لاااااا... كدب... ابني لسه حي... نايم بس... نايم انا عارفه ابني عايش... فارس عايش
ركضت سحابه نحو الغرفة ودفعت الباب بعنف وانطلقت إلى السرير حيث يرقد فارس ممددا بلا حراك ووجهه الأبيض كالقمر وشفتاه منفرجتان قليلا وسكونه يرعب القلب فكشفت الغطاء عن وجهه بيدين مرتجفتين ثم ارتمت عليه تحتضنه وتهمس له:
جوم يا فارس... جوم يا حبيبي ماما اهنبه... مش جولتلي هتجبلي ورد كل يوم... قوم جولي ماما بس... مره واحدة بس يا فارس... جوم بالله عليك... ابوس يدك.. ابوس يدك يا ابني
كانت سحابه تهزه برفق وكأنها تحاول أن تعيد الروح إلى جسده بينما دموعها تنهمر على خديه الصغيرين وقلبها يتمزق من الداخل فـ دخل أسد خلفها واقترب منها ببطء وجلس بجوار السرير ووضع يده على رأس فارس وهمس بانكسار لم يعرفه من قبل مرددا :
سامحني يا ابني... سامحني أنا السبب... أنا السبب في كل حاجه...سامحني بالله عليك
أخذت سحابة تبكي بحرقة وعيناها لا تفارق وجه ابنها وهي تقول:
فارس... متسبنيش اكده... أنا مش هعرف أعيش من غيرك... كنت عايشة علشانك... أنت ال كنت مخليني جادرة أكمل...ابوس يدك يا ابني جووم بالله عليك.. جوم يا فارس يلا
انهارت سحابه على صدره... تحتضنه وكأنها ترفض أن تودعه وفي الخلف كان الباقون يبكون بحرقه علي هذا الصغير الذي فقد حياته بدون ذنب وفي صباح يوم جديد عاد الجميع من المقابر يجرون أقدامهم جرا كأن الحزن ألقى بثقله على أرواحهم
والعيون مطأطئة والوجوه غارقة في شحوب لا تخطئه عين اما سحابة فـ كانت تسير كأنها لا تشعر بما حولها نظراتها زائغة وخطاها ثقيلة وكأنما تركت قلبها مدفونا بجوار ابنها فـ دخلت البيت بصمت دون أن تلتفت لأحد وصعدت إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها لا صوت... ولا بكاء... فقط وجع صامت يصرخ في أعماقها فوقفت زينب تنظر خلفها بعينين دامعتين ثم التفتت إلى أسد وهمست بانكسار:
اطلع ورا مرتك يا أسد... هي محتجالك دلوجتي أكتر من أي وجت تاني.
هز اسد رأسه بصمت وتنهد تنهيدة ثقيلة قبل أن يصعد خلف سحابة بخطوات بطيئة وفي تلك الأثناء كان فهد يستعد لمغادرة البيت متجها نحو الباب لكن ملك وقفت في طريقه فجأة وعيناها محمرتان وصوتها خرج مرتجفا وهتفت :
فهد... استنى أنا عايزة أتكلم معاك شويه
وقبل أن يرد فهد اقتربت ريم بخطوات سريعة وقالت بنبرة مليئة بالحدة:
عايزة تتكلمي مع جوزي بخصوص إي يا أختي بجا ان شاء الله ؟
رمقتها ملك بنظرة ثابتة وقالت بجرأة:
جوزك دا يبجى ابن عمي... ومن حقي أتكلم معاه وجت ما أحب.
ردت ريم وهي تعقد ذراعيها بحده :
لا مش من حقك... فهد مش هيتكلم مع حد.. هو هيطلع معايا انا دلوجتي
وفجأة ارتفع صوت فهد بغضب مكبوت وهو يصرخ:
ولا طالع ولا هتكلم.... أنا خارج... مش فاضيلكم.. هي الحكايه ناجصاكم انتوا كمان
استدار فهد مغادرا بخطوات سريعة لكن ملك لحقت به و أمسكت بيده بقوة وقالت بصوت مجروح:
فهد... استنى بالله عليك... إحنا لازم نتكلم... ليه عملت فيا اكده؟!
سحب فهد يده منها بقسوة ونظر إليها بسخرية مرددا:
بجد؟ انتي ال جاية تسأليني دلوطتي وزعلانة كمان؟
أنا اتحايلت عليكي قد إي لما رجعت من السفر... انا عملت المستحيل علشان اعرف اكلمك بس وانتي ولا ماثر فيكي حاجه هو أنا عملت إي أصلا يستاهل كل ال انتي عملتيه دا ولا انتي عايزة تقلدي سحابة وخلاص
أشاحت ملك بنظرها ودموعها تنهمر لكنه لم يتوقف وابع وهو يتحدث بحنق:
احنا مكناش لاجيين ناكل... وانتي عارفة إني كنت مسافر عشان أجيب فلوي مش العب بس لع طبعا كل دا ولا في دماغك.. مش في دماغك غير نفسم وانانيتك.. لولا اني انا واخوكي يا انسه ملط سافرنا واتمرمطنا بره حضرتكمكنتيش عيشتي في بيت زي دا ولا ركبتي عربيات زي دي ولا الناس احترمتك اكده ولا اخوكي سليم راح يدرس بره مصر احنا مكناش بنلعب هناك بس انتي كالعاده مش شايفه غير نفسك وبس.... ملكيش دعوة بيا تاني... أنا دلوجتي متجوز
رددت ملك بصوت باكي :
يعني خلاص اكده مبجيتش تحبني مش عايزني
ابتسم فهد بسخرية وقال وهو يهز رأسه:
ياريتني ما كنت حبيتك... ال حوصل دا كله سببه حبك ولو كنتي اتعاملتي معايا كويس... مكنش ده حوصل.. اتفرجي مبسوطه اكده بكل ال احنا فيه... دلوجتي أنا مجبور أعيش مع واحدة من أكبر أعدائي... بس على الأقل عارفة تتصرف.. عدوتي دي بتعمل واجبتها معايا اكتر من البنت ال فضلت احبها اكتر من 15 سنه...ملك ابعدي عني ... كل حاجة بينا انتهت...ومش فاضي لحب ولا عتاب... أنا فاضي لحاجة واحدة بس دلوجتي... إني أعرف مين جتل فارس
القي فهد كلماته ثم تركها واقفة وحدها والدموع تنهمر من عينيها دون توقف بينما هو مضى في طريقه... لا يلتفت وفي المساء كان الليل ثقيلا كأنما يحمل على كتفيه كل الحزن الذي يعصف بالبيت... وكانت الغرفة غارقة في سكون مخيف لا يكسره سوى أنفاس متقطعة تأتي من سحابة الجالسة فوق سرير صغير يتوسط الغرفة ترتدي ثوبا أسود فضفاضا وعيناها غائرتان من السهر والبكاء ويديها تحتضن شيئا صغيرا كأنها تتشبث بآخر ما تبقى لها من روح ابنها فـ دخل أسد الغرفة بهدوء ينظر إليها بصمت لحظة ثم تقدم منها ببطء وجلس إلى جوارها وقال بصوت خافت مشحون بالحزن:
لازم ترتاحي يا سحابة... جسمك مش هيتحمل اكده.. انتي منمتيش ولا اكلتي اي حاجه
هزت سحابه رأسها بلا رد ثم همست بصوت مخنوق:
ارتاح؟... إزاي وانا مش سامعة صوته؟... مش شايفه ضحكته... ابني يا أسد... ابني كان نور البيت راح...راح في ثانيه واحده اكده من بين ايديا...شوف دي كانت كراسته المفضلة... كان بيرسم فيها كل يوم... دايما يجولي هفرج بابا على الرسومات لما يرجع من السفر بص جواه
فتح أسد الكراسة وقلب صفحاتها بحذر وفي كل صفحة وجد وجها صغيرا يرسم أباه خطوط ساذجة لكنها محملة بالحب... في كل رسمة يبتسم له الطفل بعينين واسعتين وفي الزاوية يرسم أمه تضحك وبيته وألعابه فـ انزلقت دمعة حارقة من عيني أسد وسقطت على ورقة بالكراسة بـ همس:
كان بيحبني جوي... وأنا... وأنا مكنتش معاه..كنت بعيد عنه
ردت سحابة وهي تبكي:
كان بيحبك جوي.. وبيستناك بالساعات... هو كان ابني الوحيد... وسندي... وصاحبي...انا كنت عارفه ان دا هيوحصل... انت ظلمت ناس كتير يا أسد... وأنا كنت حاسه إن العقاب جاي... بس مكنتش متخيله إنه هيبجى في ابني.... انت دخلت بيتي ناس لا شبهنا ولا طبعنا... وانا واثقه... ابني مات مجتول... مش زي ما الدكتور جال... مش أكل حاجه مسممه وخلاص.. لع.. ابني اتجتل
نظر اليها أسد بعيون دامعة وقال بصوت ممتزج بالغضب:
أنا هعرف مين عمل اكده... وهجتله... والله هجتله
صرخت سحابه بصوت مكبوت وهي تنهض واقفة:
وهستفاد إيه لما تجتله؟! هستفاد إي يا أسد.... ابني هيرجع
لا يا أسد... مش هيرجع... مهما عملت مش هيرجع... وأنا كمان مش هرجع معاه
اقترب منها بخطوات بطيئة ثم رفع يده ولمس وجهها برفق ومسح دموعها بإبهامه وقال بصوت منهار:
سامحيني... بالله عليكي سامحيني يا سحابة... أنا آسف... أنا دمرت كل حاجه بإيدي... وضيعتك... وضيعته
سقطت دموع اسد فوق يديها المرتعشتين وانفجرت هي في البكاء مرة أخرى ثم ببطء... كأن جسدها فقد القدرة على المقاومة... ارتمت بين ذراعيه واحتضنته بقوة كما لو كانت تبحث عن الدفء في جسده فـ احتضنها بقوة وهو يهمس:
مش هسيبك تاني... ولا هسكت... هجيبله بتاره والله العظيم
ساد الصمت سوى من صوت بكاء مختلط بأنفاس مرتجفة... وحضن طويل ومع أولى خيوط الصباح تسللت أشعة الشمس الخافتة إلى الغرفة وهي تتراقص على الجدران كأنها تبحث عن حياة فقدت وفي منتصف السرير كان أسد مستلقي... ملامحه مرهقة وعينيه نصف مغلقة ويده تمسك رأسه بألم شديد فـ فتح عينيه ببطء يتنفس بثقل يحاول أن يعي أين هو... ثم بدأ يتلفت حوله للحظة ... لكن فجأة وقعت عيناه على دولاب الملابس المفتوح... وفارغ فـ نهض بفزع وكأن قلبه سقط من مكانه مرددا:
سحابة...؟!
نادى اسد باسمها وهو ينهض مسرعا يفتح باب الحمام يفتش في أرجاء الغرفة ز ينظر إلى السرير وإلى الأرض... حتي وقعت عيناه على ظرف أبيض صغير موضوع على الطاولة بجوار السرير فـ اقترب منه ببطء كأن جسده يرفض أن يعرف ما بالداخل لكن قلبه يعرف... وفتح الظرف وهو يقرأ مرددا
يا أسد...لو وصلت للورجة دي يبجى أنا خلاص مشيت... سيبت الصعيد وسيبتك للأبد... أنا مكسورة يا أسد... ومفيش كسر بيرجع يتصلح زي الأول... خسرت ابني... خسرت جلبي... وخسرت كرامتي وكل دا بسبب حبي فيك وبسبب انانيتك وانا مش هخسر نفسي كمان طلجي علشان في كل الحالات أنا مش راجعة الحاجات ال انت كتبتها باسمي كلها موجودة في البيت... مش هاخد منك حاجة ولا حتى حقي... لأن الوجع ال في جلبي أكبر من أي حاجة تانية... خلاص... قصتنا انتهت يا اسد.... "سحابة." و
توقعاتكم ورايكم يا تري اي ال هيحصل في ال جاي وهل سحابه كده صح بال عملته ولا لا ومين قتل فارس وهل موت فارس دا فيه سر ولا لا