رواية دموع علي ارض الصعيد الفصل السابع 7 والاخير بقلم نور الشامي
الفصل السابع
دموع علي ارض الصعيد
اتسعت عينا رحمة برعب حين رأت روح عند الباب وجسد أختها الصغير ممددا على الأرض كدمية مكسورة لكن غريزة البقاء كانت أقوى من الندم فأطلقت شهقة مرتجفة وسرعان ما ركعت إلى جوار أميرة ووضعت يدها على جبينها وهي تصرخ بانفعال مصطنع:
ياااه! أميرة... يا أميرة حد ينجدنا.. روووح اتصلي بالاسعاف بسرعه يا بنتي اختي وقعت... دماغها خبطت في الأرض
تقدمت روح ببطء ومازالت في حالة صدمة لا تستوعب ما تراه فهتفت من بين أنفاسها المتقطعة:
هي... هي وقعت إزاي عاد
قاطعها صوت رحمة أكثر ارتباكا من قبل وكأنها تحاول أن تهرب من نظرة أدهم المتجمدة:
وقعت بجولك وقعت كانت خارجة ومش واخدة بالها وقعت على دماغها، كلموا الاسعاف!
أخرجت روح هاتفها بسرعة واتصلت فيما اقترب أدهم من الجسد الملقى ينظر إليه بعينين يغمرهما الذهول والخذلان ثم رفع عينيه نحو رحمة فتراجعت هي خطوة إلى الوراء وهي تهمس:
انا معرفش... معرفش إي ال حوصل.. صدجني يا أدهم.. مكنش جصدي والله العظيم اعمل فيها اكده
لكن أدهم لم يرد بل التفت نحو روح وقال بحزم وهو ينهض من جوار أميرة:
روحي معاهم في الاسعاف يا روح خليكي جمبها وانا هكلم كاسر ورائف دلوجتي حالا
أومأت روح برأسها وركضت خلف رجال الإسعاف الذين بدأوا في حمل أميرة و عيناها لا تزالا معلقتين على الجسد الهش الذي لم يتحرك منذ سقوطه ورحلت روح مع سيارة الإسعاف وبقي أدهم واقفا في منتصف البيت كتفاه يهتزان من الغضب حتي نظر إلى رحمة التي كانت تقف مذهولة قرب الباب تحاول تثبيت ابتسامة مترددة على وجهها كأنها لم تشارك في أي شيء. لكن أدهم صرخ فجأة صرخة عالية زلزلت جدران القصر مرددا :
كلكم تطلعوا برا دلوجتي حالا.... كل الخدم يمشوا من اهنيه يلا
خرج الجميع في صمت مشوب بالقلق بينما كان أدهم يحدق في رحمة بعينين كأنهما تسألان:
من أنتي؟ لكنه لم ينطق الصمت بينهما كان أفظع من أي كلام..وبعد فتره بسيطه كانت رحمة واقفة أمام أدهم... جسدها متخشب و ملامحها تجمدت كأنها لم تسمع جيدا ما قاله… عيناها تتسعان وشفتيها تتحركان بالكاد مردده:
يعني... يعني إي فرات عايشة دي
لم يرد أدهم مباشرة فقط أومأ برأسه وصوت حنجرته يخرج منه كأنه يجرّ الألم معه وهتف:
ايوه... فرات عايشة
ثم سقط في لحظة شرودٍ عميق وتجمد الزمن من حوله واندفع داخله الفلاش باك...
كان المكان معتما يملؤه صدى أنفاس مختنقة و أدهم يفتح الباب الحديدي بعنف يدخل بخطوات متسارعة وعيناه تجولان المكان بجنون حتى وقعتا على الجسد المرتعش في الركن وركض إليها ثم ركع أرضا واحتضنها بقوة كأنه يحاول أن يلملم ما تبقى منها مرددا:
أنا اهنيه... أنا جيت خلاص مش هسمح لحد يقربلك تاني
كانت تبكي بصمت وجسدها يرتجف تحت ذراعيه فرفع وجهها ونظر في عينيها:
رحمة كانت ورا ال حوصل... بس أوعي تخافي مش هسيبك..حسما بالله لـ هنتجم منها..انا هحليها تندم علي كل ال عملته..اسمعي كلامي كويس..احنا هنجول إنك موتي... ومحدش هيعرف إنك عايشة. أنا عندي خطة لكل حاجة علشان اجدر احميكي لحد ما اكشفها علي حقيقتها
أغمضت فرات عينيها، وأومأت برأسها ببطء ودموعها تغرق وجهها
فلااش بااك
فاق ادهم من شروده يواجه رحمة بعينين اشتعلتا بالغضب والحزن:
وكمان... ال متعرفيهوش إن روح... بنت عم فرات، وجات علشان تنتجم من كاسر... مع إنه عمره ما لمس فرات ولا عمل فيها حاجه وفرات دايما كانت مفهماها انها معجبه بيه علشان ميبجاش اي صله بينا ولا تشكك حد مع ان فرات بتحبني انا. وكانتوهتسيب الشغل علشان متاخدش واحد متجوز. هي كانت هتبعد علشان نتجرحكيش بس انتي شيطانه.. انتي شيطانه يا رحمه
تراجعت رحمة للخلف خطوة لكن قبل أن تنطق بشيء انفتح الباب ودخلت فرات كانت هزيلة شاحبة الوجه وآثار الوجع محفورة تحت عينيها… ومع ذلك كانت واقفة قوية كأنها عادت لتأخذ حقها فـ وقفت رحمة مكانها مذهولة ثم بدأت تتحرك ببطء نحو فرات... نظرتها غريبة مزيج من الدهشة وجنون وتمتمت وهي تمد يدها:
إنتي... إنتي السبب... لو مكنتيش عايشة كان كل دا خلص... كان أدهم لسه ليا
اقتربت أكثر و يدها ترتجف وهي تهم بالهجوم لكن أدهم وقف فجأة بينهما وفتح ذراعيه ليحمي فرات فصرخت رحمة:
ابعد... ابعد عنها... انت جوزي انا لوحدي... حبيبي لوي
لكنه لم يتحرك فقط قال بهدوء:
مش هخليكي تلمسيها تاني
وفجأة انفتح الباب بعنف ودخل كاسر ورائف والشرر يتطاير من أعينهم فتابع قال أدهم ببرود مرير:
اه نسيت أجولك... أنا جولت لكاسر ورائف كل حاجه وكل دا كان مترتب من زمان وكمان كل كلامك متشجل
تجمدت رحمة في مكانها ثم حاولت ان تبتسم ابتسامة مهزوزة وتتحرك ناحيتهم مردده:
دا كدب... كله كدب... إنتو عارفيني... أنا بحبكم... أنا مستحيل اعمل اكده والله العظيم.. مستحيل انتوا مش هتصدجوه صوح
لكن كاسر اقترب منها بخطوات غاضبة ورفع يده فجأة وصفعها صفعة قوية صاحت لها الجدران مردفه :
إزاي.... ازاي جدرتي تعملي اكده!؟ أنتي أختي يا رحمة... أختي ولبستي أميرة تهمة ملهاش فيها... وضيعتي فرات... هو انتي ازاي جدرتي تعملي اكده.. وازاي جدرتي تتهمي احتك في حاجه زي دي.. دي اختك الصغيره
كانت رحمة تبكي وتحاول الاقتراب منه لكن رائف هتف بصوت جهوري:
دي خاينة... لازم نجتلها دي مينفعش تستاهل تعيش حتي
وقبل أن يتحرك أحد انفتحت الأبواب الخلفية ودخل رجال مسلحون ورفعوا أسلحتهم في وجوه كاسر ورائف فـ صرخت رحمة بانتصار وهي تشير إليهم:
انا مش هسمح لحد ياخد أدهم مني.... انتو فاهمين؟ محدش هيبعدني عنه
تحرك كاسر بسرعة ليسحب سلاحه لكن الرصاص سبق يده...
وطلقات سريعة أطلقت من أحد الرجال فسقط كاسر على الأرض يتلوى من الألم ثم لحقت به رصاصة أخرى في رائف فسقط هو الآخر وهو يصرخ:
خاينة... حتي اخواتك..والله لـ هجتلك
في تلك اللحظة أمسكت رحمه بالسلاح ووجهته ناحية فرات ودموع الجنون تغرق ملامحها :
انتي السبب... انتي
لكن قبل أن تطلق قفز أدهم فجأة وقف أمام فرات وفجاه غرست الرصاصه في جسد أدهم الذي سقط أمام فرات والدماء تنزف من صدره فـ صرخت رحمة صرخة مدوية وألقت السلاح وركضت نحوه ترفع رأسه وتبكي مردده:
أدهم... بالله عليك متسبنيش... متسبنيش... كل ده علشانك... أنا عملت كل ده علشانك
فتح أدهم عينيه بضعف وهمس:
انا بكرهك يا رحمه
ثم أغمض عينيه...وبعد فتره بسيطه كانت الشمس تنسحب ببطء خلف التلال والهدوء الثقيل يخيم على أرجاء البيت الكبير كأنه يختزن نذير شؤم... حتي توقفت السيارة أمام البوابة و نزلت روح بسرعة تتبعها سارة وقلبها يضرب صدرها بعنف غريب وخطواتهم كانت متسارعة وقلوبهم تسبقهم لهناك... إلى الداخل.لكن ما إن عبروا عتبة الباب حتى شلت أجسادهم مكانها...وصرخة مكتومة خرجت من فم روح بينما عيناها اتسعتا برعب وهي تهمس:
كــاسر
كان كاسر ممددا على الأرض و وجهه شاحب ودماء تسيل من جانبه وإلى جواره رائف وأدهم... ثلاثتهم غارقون في الدم والمشهد أقرب إلى المجزرة فـ ركضت روح نحو كاسر و ركعت جواره وقلبها يوشك على الانفجار وهتفت وهي تهزه بقوة:
كاسر اصحي بالله عليك... جاوبني... كاااسر
لكنه لم يجب لا حركة... لا نفس أما سارة فقد كانت تبكي وهي تزحف نحو رائف تمسك بيده وتهمس كالمجنونة:
— رائف... رد عليا ... بالله عليك رد
وفجأة... ومن بين الظلال عند الدرج العلوي ظهر شبح جسد نحيل ووجه شاحب وثوب ممزق وخطوات بطيئة...فتجمدت روح وصوت أنفاسها توقف وتعلقت عيناها بتلك الفتاة التي تهبط السلم نفس الملامح... نفس العينين... لكنها مكسوة بالكدمات والدم على طرف جبهتها وفجاه قبل ان تتفوه روح سقطت هذه الفتاه من علي درجات السلم فنهضت روح وهي تصرخ بصدمه:
مستحيل... فرااات
وفي الصباح في المستشفي كانت روح تقف مكانها وملامحها شاحبة وعيناها متجمدتان في ذهول لا تصدق ما تري فاقترب الظابط منهم وردد:
وصلنا بلاغ من واحد من الخدم… جال إنه سامع صوت ضرب وضرب نار… ولما دورنا لجينا تسجيلات الكاميرات… ال حوصل كله متسجل.... رحمة هي المسؤولة عن كل دا… وهي حالياً هربانه بس بنطاردها… وإحنا هنحط حراسة على المستشفى اهنيه علشان تحميكم
أومأت سارة برأسها بينما انهارت روح على المقعد القريب ودموعها تنهمر بصمت ثم شهقت وقالت بانكسار:
أنا ظلمته… أنا شكيت فيه وطلع برئ… كاسر مكانش يستاهل مني اكد… أنا... أنا ال غلطانة!
مسحت ساره دموعها وهي تحاول تضم روح إليها وهتفت :
هنبجى كويسين يا روح… هما هيعدوا من كل دا انا متاكده والله
خرج الطبيب بعدها بلحظات قصيرة كان مرهق الملامح لكنه هادئ حين قال:
الحمد لله… الإصابات مش خطيرة حتى إصابة أدهم عدت من مرحلة الخطر بس لسه حالتهم مش مستقرة..... أما فرات… فهي في غيبوبة وهنحتاج نتابع حالتها كل ساعة.
هزت روح رأسها بتأثر وقلبها يتمزق من الألم والخوف وفي صباح جديد كانت الشمس تنزلق على نوافذ المستشفى بخجل وضوءها ينساب على وجه كاسر الشاحب وهو مستلقي على سريره…أما روح فكانت تجلس جواره تمسك يده بحنان مرتجف… وعيناها تفيض بالدموع مردده:
كنت كل يوم أجول إني لازم أنسى… لازم أنتجم… بس أنت
كنت برئ… وكنت بتحاول تفهمني بطريجه مش مباشره. أنا آسفة... آسفة يا كاسر… متسبنيش بالله عليك
فجأة… تحركت أصابعه بخفة ثم فتحت عيناه ببطء وصوته خرج واهن لكنه دافئ:
روح... انتي كويسه
شهقت وهي تنحني نحوه بلهفة:
كاسر! كاسر حمد لله على السلامة!أنا اهنيه … موجوده جمبك.. انا اسفه.. اسفه سامحني بالله عليك
ابتسم كاسر بصعوبة وقال:
متعتذريش… أنا ال لازم أعتذر… كل ال حوصل سببه أختي.. وانا كمان غلطان وظلمت اميره
سأل بعدها وهو يختنق بالقلق:
رائف؟ أدهم؟ أميرة هما كويسين
ردت وهي تمسح دموعها:
كلهم بخير الحمد لله… أدهم فاق ورائف هيخرج من العناية بعد يوم… أميرة حالتها مستقرة…بس فرات… فرات في غيبوبة.
أغمض عينيه بألم فاقتربت أكثر ووضعت رأسها على صدره، وهمست بصوت مهزوم:
بس بالله عليك… أنت متسبنيش… كفاية خسارة... كفاية وجع… أنا محتجالك يا كاسر والله
أغمض كاسر عينيه ويده تحركت لتحتضن يدها بهدوء…والدموع كانت تتساقط بصمت لكن القلب لأول مرة شعر بالأمان وسط كل الفوضى.... مر يومان… وما زالت المستشفى تحت حراسة مشددة الليل يزحف ببطء على النوافذ الزجاجية والهدوء يلف المكان كسحابة ثقيلة لكن خلف باب إحدى الغرف... كان الظلام يخبئ شرا لم ينتهِ بعد.وفي غرفة فراتةحيث الأجهزة ترصد نبضات الحياة الهشة... جسدها لا يتحرك وملامحها ساكنة وعيناها لا تزالان مغلقتين كأنها نائمة في سلام وهمي فـ انفتح الباب بهدوء غير طبيعي...دخلت امرأة ترتدي عباءة سوداء ونقابا يخفي كل ملامحها… خطواتها بطيئة لكنها ثابتة وكأنها تعرف طريقها جيدا واغلقت الباب خلفها بالمفتاح... وسحبت النقاب عن وجهها كانت رحمة عيناها مجنونتان… شعرها مبعثر… وشفتيها ترتجفان وهي تخرج من عباءتها مسدسا صغيرا وتمد يدها به نحو فرات الممددة وهمست بصوت كأنه زحف أفعى:
فاكرة نفسك كسبتي.... انتي السبب في كل دا...خدتِي مني إخواتي… خدتي أدهم…خليتيني وحيدة...أنا كان ليا كل دا… وانتي جيتي سرجتيهم واحد ورا التاني بسخلاص لازم تدفعي التمن... لازم تموتي يا فرات... لازم تموتي دلوجتي حالا
لكن قبل أن تضغط على الزناد… تردد صوت من خلفها هادئ جامد كأنه نطق من قبر:
ـخلاص اكده... اللعبه انتهت.
تجمدت رحمة في مكانها… والصوت تكرر مرة أخرى أقرب... أثقل لا يحمل تهديدا... بل حكما وفجاه فتحت فرات عينيها.ببطء شديد... وسط كل السكون والرعب... فتحت عينيها، ونظرتها الأولى كانت ثابتة قوية تتجه مباشرة نحو رحمة… كأنها كانت تسمع كل شي و