رواية دموع علي ارض الصعيد الفصل السادس 6 بقلم نور الشامي
الفصل السادس
دموع علي ارض الصعيد
كان كاسر واقفا عند باب الغرفة يتأمل الوجوه المتجمدة أمامه وقد بدت على ملامحه علامات الاستفهام أكثر من الغضب.. لم يسمع شيئا مما قيل لكن الصمت وحده كان كفيلا بإشعال الشك في قلبه فـ تقدمت رحمة بخطوات بطيئة وهي تحاول استعادة تماسكها ثم قالت بنبرة مرتجفة:
ادخل يا كاسر... تعالي اتفضل... تعالي يا روح
نظر إليها كاسر مطولا ثم التفت نحو روح وقال بنبرة هادئة لكنها آمرة:
هاتي العلاج يا روح يلا
تحركت روح نحو الحقيبة وقدمت له العلبة لكن حين مدت يدها إليه وقعت عيناه على آثار داكنة على معصمها فـ قبض على يدها بسرعة وحدق فيها بحدة:
دا من إي .. اي ال عمل في ايدك اكده
ارتبكت رحنه وسحبت يدها بخفة ثم تمتمت:
لا دا... أنا وقعت بس مفيش حاجه خالص.. متخافش اكده
رمقها كاسر بنظرة طويلة ثم أشاح بوجهه بينما كانت رحمه تخفي ارتباكها خلف صمت مشحون فشردت روخ وهي تفكر لنفسها داخليا:
إزاي كل حاجه حواليا بجت مربوطة ببعض... كريم خطفني في مكان تبع رائف... وفرات اسمها بيتكرركتير جوي وانا حاسه ان فيه حاجه غريبه..انا متاكده اني سمعت اسم فرات ادم بيجوله لرحمه .. العيلة دي مش طبيعيه وأنا لازم أفهم علشان انا زهجت وتعبت
وفجاه قاطع شرودها صوت كاسر الجاف:
مالك؟ فوقي... سرحانة في إي عاد
رفت روح بعينيها نحوه فأشارت رحمة من على السرير وهي تقول:
خد روح معاك تجيبلي العلاج التاني يا كاسر علشان مشموجود نهائي اهنيه
روح بلهفه:
لع معلش أنا هروح أجيبه مفيش داعي
لكن كاسر قاطعها بلهجة قاطعة:
لع يلا تعالي معايا...حضري نفسك لحد ما اجهز العربيه
القي كاسر كلماته وذهب وبعد مرت دقائق كانت روح تجلس جواره في السيارة تحتضن حقيبتها وكأنها درع يحميها من كل الأسئلة حتي التفتت نحوه فجأة وقالت بتردد:
هو حضرتك... مين فرات؟
جمد كاسر للحظة ثم رد بنبرة منخفضة:
بتسألي ليه؟
روح بتوتر:
بسمع اسمها كتير... الناس بتتكلم عنها.
زفر ببطء ثم أجاب وهو يثبت عينيه على الطريق:
كانت بتشتغل عندنا... ومشيت من زمان زي ما اي واحده بتشتغل
وفجاه رن هاتفه فقطع اللحظة و أجاب باقتضاب ثم أغلق الخط وقال:
معلش... لازم أعدي على الشركة دلوجتي ضروري
قالت روح بهدوء:
طب خلاص نزلني اهنيه وأنا أجيب العلاج والحاجه وارجع
هز كاسر رأسه وقال بصرامة:
لع . هتيجي معايا الشركه واول ما اخلص نبجي نروح نجيب العلاج
وبعد فتره دخلا الاثنين الشركة و بدت روح مأخوذة بتفاصيل المكان عيناها تتحركان في كل اتجاه كأنها تحاول حفظ كل شيء فـ دخل كاسر المكتب وما إن فتح الباب حتى تجمد في مكانه. كان رائف مستلقيا على الأريكة ويده ملفوفة بضمادة غارقة في الدم فـ صرخ كاسر وهو يندفع نحوه:
رائف اي دا... إنت ال عملت اكده في نفسك.... اتغصبت على مين؟ وكسرت الدنيا بالطريجه دي
فتح رائف عينيه بتعب وقال:
مفيش...انت اتاخرت ليه عاد مش جولتلك تعالي بدري
اقتربت روح بحذر وقالت:
ممكن أعالج الجرح... هو بينزف جامد ولازم نوجف النزيف
مدت روح يدها لحقيبتها وعندما انتهت فتح الباب ودخلت سارة بتوتر وحين وقعت عيناها على روح اتسعت حدقتاها وهتفت:
روح.... ياااه... مش معقول... انتب اهنبخ إي الصدفة دي.. عامله اي واحشتيني جوي وفرات عاملة إي
تجمدت روح في مكانها واتسعت عيناها بذهول بينما التفت كاسر ورائف نحوها في اللحظة نفسها... الاسم الذي نطقت به سارة ارتطم بجدار الصمت كالصاعقة فنظرت روح وتمتمت بارتباك:
جصدك فاطمه..اها الحمد لله... هي... تمام
لم تلاحظ ساره التوتر و تابعت بحماس:
تعالي بجا لما أعزمك على جهوة ونتكلم شويه انتي واحشتيني جوي
ثم التفتت لكاسر وقالت بابتسامة:
ممكن أستاذن؟
أومأ كاسر برأسه وسحبت ساره روح معها وما إن أغلق الباب خلفهما حتى قال كاسر وهو ينظر نحو رائف:
فيه حاجه غلط... بس ما علينا دلوجتي... جولي عملت اكده في نفسك ليه؟
نهض رائف ببطء وهو يرد بضيق:
هي هتتخطب... سارة!
كتم كاسر ضحكة ساخرة ثم قال ببرود:
مدام بتحبها جولها بدل المصاريف دي كلها بسبب الحاجات ال بتكسرها .. بلاش تعاند نفسك أكتر من اكده.
تنذمر رائف وردد بضيق:
خلينا في الشغل أحسن.. شغلنا أهم دلوجتي
انهي رائف كلماته بضيق وكانت الأيام تمر بسرعة تتسرب من بين أصابع الوقت كما يتسرب الماء من كفٍ مثقوب. لا شيء يذكر يحدث على السطح لكن تحت الملامح الهادئةوكانت أمور كثيرة تتغير.... كانت روح تحاول المقاومة... تحاول أن تتذكر السبب الذي جاءت من أجله تحاول أن تبقي في ذهنها صورة فرات وصوتها ودمعتها الأخيرة.... لكن المشكلة أن كاسر لم يكن ذلك الشخص الذي ظنته... أيام وأيام وكل يوم كان يجعلها تقترب منه أكثر... تراه يبتسم لطفل صغير من أبناء الخدم يسمع وجع الجدة دون أن يتكلم يقرأ في عينيها ألمها قبل أن تبوح ويترك القهوة تبرد فقط لأنه شارد في حزن لم تفهمه بعد...
حاولت كثيرًا أن تنتقم... حاولت أن تزرع الشك... أن تزرع له كمينا بسيطا تفضحه فيه لكنها كانت تتراجع في آخر لحظة... كانت عيناها تفضحها وقلبها يخونها كل مرة وكان هو يقترب... دون أن يطلب شيئا. دون أن يعترف لكن صمته كان أكثر ضجيجا من الكلام وفي صباح يوم دافئ كانت الشمس تتسلل إلى أرجاء القصر على استحياء.... وكاسر يقف داخل غرفته عاري الصدر يلملم أزرار قميصه الأسود استعدادا للخروج حين دق الباب بخفة وظهر وجه روح من خلفه ودخلت بخطوات مترددة وهي تحمل صينية صغيرة عليها فنجان قهوة ثم رددت بخجل:
الجهوة... الشغالين مشغولين تحت فـ جولت أجيبها لحضرتك
نظر إليها للحظات ثم قال بصوت منخفض:
تعالي... دخليها
تقدمت روح بخطوات بطيئة ووضعت الصينية على الطاولة الصغيرة قرب النافذة لكنه لم يبتعد... كانت خطواته تقترب ودفء أنفاسه بدأ يخترق الجدار الذي حاولت تبنيه طوال الأيام الماضية فـ قال وهو يراقب ملامحها دون أن يبتسم:
انتي بجيتي بتخافي مني ولا اي عاد.. في اي يا روح مالك
هزت روح رأسها سريعا وهي تتفادى النظر إليه وهتفت:
لع طبعا يا بيه بتجول اكده ليه بس ياريت كل الناس تبجي زي حضرتك
كاسر بضيق:
طيب ليه حاسس دايما مش مرتاحة... صوح؟
أرادت أن تكذب... أن تنكر لكنها صمتت وكان صمتها كافيا ليعرف كل شيء ومرت لحظة صمت طويلة ثم قالت فجأة كمن اتخذ قرارا مؤلما:
أنا لازم أسيب الشغل.
تجمد مكانه وكأن كلماتها صفعة غير متوقعة:
إي.... ليه... إي ال حوصل.. فيه حد اهنيه زعلك او عملك حاجه تضايجك
نظرت إليه روح بعينين مبللتين وتمتمت:
انا مش هجدر أكمل اكده... ال بيوحصل غلط... غلط جوي كمان.. لازم امشي
ارتفع صوت كاسر ليس غضبا بل ذهولا وصاح:
غلط... إزاي يعني أنتي شايفة إنك غلطانة في إي
نظرت إليه ثم إلى الأرض كأنها تخجل حتى من أفكارها:
أنا... أنا بحاول أفتكر ليه جيت اهنيه... وبنسى كل حاجه لما بشوفك... أنا واحدة خاينة... مش كويسة.
اقترب منها خطوة، ومد يده ليوقفها حين تحركت مغادرة مردده:
استني... مينفعش تمشي اكده. جوليلي في إي.. انا مش فاهم حاجه والله
هزت روح رأسها بقوة ودموعها تنهمر:
مينفعش... أنا مش جادرة أكمل اكده... مش عارفه اعيش.. ابوس يدك سيبني امشي
أمسك كاسر يدها وسحبها نحوه وقال بصوت مختنق:
خونتي مين؟ أنتي عمرك ما تكوني خاينة متقسيش على نفسك اكده.. لو فيه حاجه فهميني ونحلها مع بعض
صرخت روح بانكسار وهي تبكي أكثر وهتفت:
انت مش فاهم اي حاجه. مش فاهم حاجه خالص.. انا بجيت بضعف جدامك. وأنا مينفعش أضعف اكده... مينفعش
تركت رزح يده فجأة وركضت خارجة من الغرفة تاركة خلفها قلبا مأخوذا وصمتا يحاول أن يفهم ما جرى...أما كاسر فظل واقفا في مكانه يحدق في باب الغرفة المغلق بصدمه لا يفهم اي شئ مما يحدث
وبعد فتره كان الصمت يسود أرجاء الغرفة إلا من صوت السوستة وهي تنزلق على حافة حقيبة السفر بينما أدهم يحشو ملابسه بعنف كأنما يريد أن يخرج من جلده لا من البيت فقط... وكانت رحمة واقفة خلفه عيناها محمرتان ويدها ترتجف وهي تتوسله بعينين دامعتين مردفه :
بالله عليك استنى... انت بتعمل إي؟ رايح فين... متسيبنيش اكده يا أدهم.. ابوس يدك انا بحبك جوي والله
لكن أدهم لم يلتفت... بل ازداد صمته حدة حتى نطق أخيرا بصوت جهوري:
خلاص... مش جادر أعيش معاكي أكتر من اكظه.. ومش هاممني لو هخسر كل فلوسي المهم ابعد عنك.. انا لو فضلت اهنيه اكتر اكده هموت
ارتجفت شفتاها وخرج صوتها متهدجا:
علشان فرات صوح... كل دا علشان فرات.. بتبعد عني علشانها
توقف لحظة ثم التفت نحوها كمن انفجر داخله بركان قديم وصاح بألم:
أيوه علشان فرات..... فرات ال بعتي ناس يعتدوا عليها ال خوفتيها وجولتلها لو نطقتي باسمي هطتل كل ال بتحبيهم
ال ماتت وأنا حتى معرفتش مكانها... ولا أهلها راحوا فين
فرات ال انتي خليتي كاسر ورائف يصدجوا إن أميرة اختك هي ال عملت فيها اكده علشان كانت بتغير منها...كرهوا أختك يا رحمة بسببك بطوا بيشوفوها زي العار وهما ميعرفوش إنك انتي السبب الحقيقي...وأميرة نفسها مش فاهمة ليه الكل بيبعد عنها... ليه بيتعاملوا معاها كأنها جانية مش ضحية
انحنت رحمة إليه باكية ومدت يدها تمسك بذراعه:
أنا آسفة... أنا بحبك يا أدهم... عملت اكده علشان بحبك... خفت أخسرك
لكنه أبعد يدها عنه بعصبية وقال بقسوة:
انتهينا... أنا مش طادر أعيش معاكي تاني! الحب ال بيوصلنا للعار ميبجاش حب... اسمه خراب
وقبل أن يرفع حقيبته ويغادر الغرفة انفتح الباب فجأة...كانت اميرة تقف هناك جسدها متخشب ووجهها شاحب والدموع تنهمر من عينيها دون أن ترمش:
يعني... انتي ال عملتي اكده.... انتي السبب إن كاسر ورائف بيكرهوني.... ليه دا أنا أختك... أختك الصغيرة يا رحمة دا أنا بموت فيكي انا دايما مستعده اضحي بحياتي كلها علشانك انتي وكاسر ورائف
وفجاه صوتها تحول لصرخة مكتومة وهي تقول:
انا لازم أكلم كاسر.. لازم أجوله الحقيقة كلها
أسرعت رحمة إليها تمسكها بقوة مرددخ :
مش هتروحي.... بالله عليكي يا اميره استني ابوس يدك
اميره بصراخ:
ابعدي عني... لازم يعرفوا إني بريئة.... لازم أفهمهم... لازم أعرفهم إني مش الوحش ال هما فاكرينه واني معملتش حاجه.. ومستحيل اعمل حاجه زي دي
بدأت أميرة تتحرك باتجاه الباب وقبل أن تلمسه... رفعت رحمة شيئا ثقيلا كان بجوارها... وهوت به على رأس أختها وصرخة قصيرة خرجت من أميرة ثم سقط جسدها على الأرض بلا حراك فـ شهق أدهم وهو يندفع ناحيتها:
أميرة... اميره فووجي بالله عليكي.. اميره
ركع ادهد بجوارها يتلمس نبضها ثم رفع رأسه نحو رحمة ووجهه مذهول مرتعب:
جتلتها... جتلتي أختك بإيدك
وفي تلك اللحظة... انفتح الباب مرة أخرى ودخلت روح وهي تمسك بالادويه بين يديها، وما إن رأت المشهد حتى سقط الدواء من يدها...وجمدت مكانها تغمرها الصدمة وعيناها على جسد أميرة المسجى وصرخت وهي تتراجع للخلف و