رواية خائنة خلف جدران الحب الفصل الخامس 5 بقلم صفاء حسني
مكنتش هقدر أسيبه يموت..."
وأغمضت عينيها...
أصوات عربيات الإسعاف كانت بتملأ الشارع،
وصفاراتها تشق الهوا،
والدنيا كلها بقت في حالة طوارئ.
في عربية... مومن نايم ووشه باهت،
وفي العربية التانية... رهف، عينيها مغمضة، ووشها أبيض زي الورقة.
كان القاضي محمد محسن واقف بين العربيتين،
صوته مبحوح وهو بيزعق في رجال الأمن:
"أنا عايز دكتور فورًا...
ابني بينزف... والبنت دي أنقذته،
لازم تنقذوها بأي تمن!"
...
خائنة خلف جدران الحب
الفصل الخامس
الكاتبة صفاء حسنى
دخلوا على مستشفى الطوارئ،
والكل بيتحرك بسرعة،
طقم طبي كامل بيستقبل الحالتين:
ممرضات بيقيسوا الضغط.
دكتور بيصرخ: "جهزوا غرفة العمليات فورًا!"
دكتور تاني: "الفتاة عندها نزيف داخلي في الكتف، لازم جراحة عاجلة!"
"والشاب؟"
"فيه رصاصة مستقرة في عضلة الرجل، بس حالته مستقرة الحمد لله..."
القاضي كان بيحاول يتمالك نفسه،
لكن دموعه خانته...
شاف مومن بيتاخد جوه،
ورأسه متعلقة على المخدة،
وقال بصوت واطي:
"أنا آسف يا ابني... ماكنتش أعرف إن الشر هيقرب من باب بيتي."
في الممر، كانت أم رهف وصلت بعد ما بلغوها،
انهارت من البكاء أول ما شافت بنـتها على السرير،
كانت بتصرخ:
"بنتي مالها؟!
مين ضربها؟!!
كانت فين؟!!"
الدكتور قال بهدوء:
"ممنوع الكلام دلوقتي... البنت بطلة،
أنقذت حياة زميلها...
وإحنا هننقذ حياتها إن شاء الله."
...
االكاتبة صفاء حسنى
مرّ الوقت بصعوبة...
ثلاث ساعات عدّت،
وأي دقيقة كانت محسوبة على قلب القاضي... وعلى قلب أم رهف.
لحد ما خرج الدكتور من غرفة العمليات،
وكل العيون اتعلّقت بيه.
الدكتور قال بصوت مطمئن:
"العملية نجحت...
مومن حالته مستقرة وهيتعافى،
ورهف... قوية جدًا...
نجيناها من نزيف خطر،
بس محتاجة راحة تامة ومتابعة."
انهارت أم رهف من البكاء وهي بتقول:
"ربنا يخليها ليا...
كانت دايمًا بتقوللي: عاوزة أكون بطلة... وفعلاً بقت بطلة."
...
الكاتبة صفاء حسنى
.........
في أوضة بسيطة، مأذون قاعد،
وأوراقه مفتوحة،
والكلمات بتتقال كأنها طلقات رصاص بتخترق روح إيمان:
"تم بحمد الله... كتب كتاب الآنسة إيمان عبد الرازق على الدكتور عبد الرحمن، على سنة الله ورسوله."
الكل في المنظمة بيصفق،
نظرات الشماتة باينة في عيونهم...
ريّس التنظيم بيبتسم وهو بيقول:
"كده نكون دمرنا قلب القاضي... وسجّلنا نصر جديد."
لكن إيمان ما كانتش سامعة حاجة...
كل اللي في بالها: رهف...
صاحبتها اللي كانت بتحبها بصدق،
والشاب اللي اسمه ما نطقتهوش... لكن قلبها ناداه.
رجعت لليوم اللي طلبوا منها فيه تعرف اسم شاب في مدرسة الحرية،
ولما رفضت، اتضربت واتبهدلت...
وآخرها كانت قبل ما تبلغهم كانت تبعت تنبيه لكن حد مستهدف وتخبيها في شنطتهم وبفضلها كانت بتفشل أي عملية .
تفوق من شرودها على صوت عبد الرحمن
دلوقتي خلاص...
بقت زوجة عبد الرحمن، وعلى وشّ سفر،
لكن قلبها مش قادر يمشي وهي مش مطمنة على رهف.
طلبت من عبد الرحمن:
"أنا عاوزة أزور رهف...
لحظة واحدة بس، قبل ما نسافر، مش هطوّل."
عبد الرحمن اتفاجئ، لكنه وافق بصوت هادي:
"زي ما تحبي، بس متطوليش...
الطريق طويل، ولسه عندنا تعليمات."
...
الكاتبة صفاء حسنى
وصلت المستشفى،
طلبت تشوف رهف...
الممرضة بصت عليها بتردد،
لكن بعد ما عرفت إنها "صديقة قديمة"،
سمحت لها تدخل.
دخلت الأوضة...
رهف كانت نايمة، ووشها شاحب،
لكن ملامحها لسه بريئة.
إيمان وقفت عند السرير،
مدّت إيدها على إيد رهف،
قلبها بيتقطع من جواها،
وهمست بصوت مكسور:
"أنا آسفة...
أنا خائنة ل منظمة لكن مش ل بلدى ... بس مش بإيدي.
إنتي الوحيدة اللي كنتِ بتشوفي فيا الإنسان مش الجاسوس."
طلعت من شنطتها جواب صغير،
وحطته في كف رهف،
ولفته بالمنديل الأبيض اللي دايمًا رهف كانت بتحبه.
طلعت إيمان من الأوضة بهدوء...
ما بصّتش وراها،
كأنها سايبة جزء من روحها هناك،
وجزء تاني... لسه بيحتضر.
أصوات الكراسي المتحركة والنقالات كانت بتملأ الممر،
وإيمان ماشية ووشّها مغطي بالحجاب، عينيها في الأرض، لكن ودانها كانت مفتوحة على آخرها. سمعت
"الظابط مومن محمد محسن... خرج من العناية وهيتنقل على أوضة عادية."
صوت الممرضة قال الجملة، كأنه جرس إنذار ضرب في ودنها.
وقفت إيمان مكانها، إيدها تهزّت لا إرادي...
مش بس خوف... ده قلبها اللي اتشد، كأن في حاجة بتربطها بالمكان ده... بالشخص ده...
بدأت تمشي ببطء، بس عقلها رجّعها لورا، لزمان بعيد...
⏪ فلاش باك - الصف الرابع الابتدائي
في شارع هادئ، طفلة صغيرة كانت ماشية لوحدها، لابسة مريلة المدرسة،
عينها على الأرض وخطوتها متوترة،
وفجأة سمعت صفارة عربية شرطة،
تجمدت في مكانها، وركنت على الرصيف، قعدت على الأرض من الرعب.
عدّى ولد أكبر منها شوية، قرب منها وسألها بلُطف:
"مالك؟ بتعيّطي ليه؟"
رفعت عنيها بتردد وهمست بصوت بيرتعش:
"أنا بخاف من الظباط... بيحبسوا الناس وبيضربوا الأطفال...
أنا بكره الظباط."
الولد ابتسم ومسك إيدها الصغيرة بلُطف وقال:
"تعالي معايا... تعالى بس."
شدها بإيده، ووقف ينادي:
"يا عمو يا عمو الظابط!"
جسمها اتجمد، قلبها خبط في صدرها،
لفّت وشها، وشافت ظابط نازل من العربية،
اتجمدت، وركنت على الرصيف، وقعدت على الأرض من الرعب.
... لكن الظابط قرّب منها، وابتسم بلُطف:
"أيوه يا حبيبي... في حد مضايقك؟"
الولد قال:
"البنت دي خايفة منكم...
حد قالها إنكم أشرار.
ازاي نخليها تعرف إن الشرطة بتحمي البلد؟
وإن الأشرار هما اللي لازم يخافوا؟"
الظابط نزل على ركبته، وبص لإيمان في عينيها وقال:
"اللي بيخوفك مش هو الصح،
اللي بيظلم هو اللي لازم نخاف منه...
بس احنا شغلنا نحمي، مش نؤذي."
سألته إيمان الصغيرة، بصوتها البريء:
"بس ليه بتحبسوا الناس كلها؟"
اتسعت عيون الظابط، وقال بهدوء:
"مين قالك إننا بنحبس الناس كلها؟
بصي حواليك، الشارع مليان ناس ماشية وأمان...
إحنا في الكلية اتعلمنا يعني إيه نحب بلدنا،
تعرفي يعني إيه تحبي بلدك؟"
هزّت إيمان راسها بالنفي.
ابتسم الظابط وقال:
"يعني لو معاكي فلوس، وجه ولد سرقهم منك،
مش المفروض نقبض عليه؟
ولو في حد قتل حد بريء، مش لازم يتحاسب؟"
تنهدت إيمان:
"يعني أنتو مش بتقبضوا إلا على الناس اللي بتغلط؟
والبريء... اللي بيحب بلده، بتسيبوه؟
بس أنا سمعت الشيخ في الجامع بيقول إن الظباط والجيش وحشين،
وإن اللي بيحكموا البلد بيسرقوا فلوس الناس،
وأي حد يعترض، يتقبض عليه ويتسجن."
سألها الظابط، وعيونه فيها استغراب وحزن:
"فين الجامع ده؟
وإزاي الجامع اللي مفروض نصلّي فيه...
يتكلم بالشكل ده؟
الجامع مكان عبادة، مش مكان تحريض.
ولو بتحبي بلدك بجد،
ما تسكتيش على الغلط...
بس ما تكرهيش اللي بيحموا بلدك." وكل بنت وولد فى البلد أخوات مسلم وأقباط أخوات منسمحش حد يفرق ما بينكم
إيمان بلعت ريقها وقالت بصوت مكسور:
"أنا معنديش إخوات..."
ابتسم الظابط وقال:
"كل اللي عايشين في البلد دي... إخواتك.
البلد دي مذكورة في القرآن،
وربنا نزل فيها رسل وأنبياء،
ولو واحد غلط، ما ينفعش نحكم على الكل إنه وحش."
هزّت إيمان راسها وقالت بهدوء:
"آه... فهمت."
سألها الظابط بابتسامة:
"اسمك إيه؟"
ردت بخجل:
"إيمان."
بصّ الظابط للولد وسأله:
"وإنت اسمك إيه؟"
رد الولد وهو بيبتسم:
"مُؤمِن."
ضحك الظابط وقال:
"سبحان الله...
طول ما البلد فيها إيمان ومؤمنين...
أكيد هتفضل في حِمى ربنا."
إيمان رجعت للواقع، والدمعة غرقت عينها،
وهي شايفة النقالة اللي شايلة مومن بتعدي من قدامها...
وشه شاحب، لكن فيه نور... نور اللي بيحمي، مش بيؤذي.
همست لنفسها:
"ومن وقتها اتعلمت إني مش لازم أصدق كل اللي بيتقال...
واي ظابط بينجرح او يموت ... دفع تمن حماية البلد دي من ناس زي أبويّا."
لفت وشها نحية الناحية التانية...
مش عاوزة تشوفه أكتر، مش دلوقتي...
بس كانت متأكدة إنها هتقابله تاني.
📍االكاتبة صفاء حسنى
الممر كان هادي، صوت عجلة النقالة وهي بتتحرك على الأرض كان بيكسر الصمت،
لكن جوا إيمان... في حرب مشتعلة.
شافت النقالة اللي شايلة مومن،
وشافت وشّه... شاحب،
بس مش غريب عليها.
قربت... رجليها بتتزحلق، قلبها بيرجّ، وإيدها بتترعش،
مدّت صباعها بتردد... ولمسته.
لمست إيده... نفس الإيد اللي سندها زمان وهي بنت في ابتدائي،
نفس الإيد اللي حمت، واللي اتصابت وهي بتحمي.
وفجأة... صوت طالع من جواها، مش من الممر،
من أعماق الذاكرة...
"أنا لما أكبر... هبقى ظابط زيّك، يا حضرة الظابط."
كان صوت الولد اللي أنقذها زمان،
الولد اللي أخدها للظابط... واللي غيّر نظرتها.
وردّ الظابط في الذاكرة، صوته دافي:
"وانتي يا شاطرة؟... هتكوني إيه؟"
وصوتها الطفولي، البريء، بيرن جوا دماغها:
"هكون دكتورة...
وهعالج الظباط."
كانت إيمان ماشية في الممر، رجليها بتترعش، ودموعها متحبسة في عينيها...
كل خطوة تقربها من غرفته كانت تقطع حتة من قلبها.
دخلت بهدوء... لقت مومن على السرير الأبيض، مغمض عينيه،
بس ملامحه فيها وجع، فيها حرب خلّصها ولسه متألم.
قربت منه، بصت له...
مدت إيدها المرتعشة، لمست إيده بلُطف،
وبصوت مخنوق بالدموع، همست:
"سامحني...
مقدرتش أكمل وعدي...
هيبعتوني المعسكر بتاعهم،
بس قلبي هنا... عندك، وعند رهف...
ربنا يحميكم."
نزلت دموعها غصب عنها، وقعت على إيده،
وفجأة...
فتح مومن عينه ببطء، حس بالدمعة على إيده،
ومسك صوابعها بلُطف،
وصوته كان ضعيف... لكن قلبه كان بيصرخ:
"رهف...
عايز أشوف رهف."
ارتبكت إيمان، دموعها زادت، قربت منه أكتر،
لكن قلبها اتعصر... هي اللي أنقذته، بس مش تقدر تقوله... مش دلوقتي.
خرجت إيمان من باب المستشفى، خطواتها بطيئة، كأن كل خطوة بتفصلها عن حتة من قلبها.
رجليها كانت بتجرها جر، مش ماشية... خارجة من جوه نفسها.
كانت لسه عيونها فيها آثار الدموع، ولسه ريحة المستشفى في هدومها، ولسه نبض مومن في إيديها.
لكن الواقع ما استناهاش...
كان عبد الرحمن واقف عند العربية، مستنيها، وعينيه مرصودة على الباب.
لما شافها خارجة، فتح باب العربية من غير ما يتكلم...
ركبت وهي ساكتة، ملامحها منهارة، لكن مرفوعة الراس.
سندت راسها على الشباك... تبص في الطريق، وكأنها بتودّع شوارع بلدها، ذكرياتها، صوت رهف، عينين مومن، حضن أمها.
عبد الرحمن شغّل العربية، وسابها تمشي...
من شارع لشارع، ومن طريق لطريق...
من مدينة لمدينة، ومن مركب لمركب، الرحلة كانت طويلة...
بس أطول حاجة فيها كانت المسافة بين قلبها وبين كل اللي بتحبهم.
كانت كل ما يشاور لها على خريطة تقول بصوتها الواطي:
"هو ده الطريق؟"
وهو يومي براسه، من غير ما يجاوب بكلام...
لأن حتى هو مش متأكد إذا كان ده الطريق للنجاة... ولا للهلاك.
عدّت ساعات الرحلة زي سنين،
الميه حوالين المركب كانت سودة، والليل مغطي السما،
وهي قلبها مليان بأسئلة ما لهاش إجابة:
ليه أنا؟ ليه اتولدت في وسط كل ده؟
هو ربنا هيحسبني على حاجة مفروضة عليا؟
بس كل ما تحاول تبكي... تمسح دموعها بسرعة، كأنها مش عايزة تضعف.
وصلوا بلد جديدة...
وهي لابسة جلباب واسع، طرحتها مغطيه وشها...
بس عينيها كانت بتقول حكاية طويلة.
عبد الرحمن اتكلم أخيرًا:
"هنا هنعيش، وهنا هنبدأ من جديد.
محدش هيعرفنا... وإنتِ مش لوحدك."
نزلت إيمان من المركب، هدومها لسه بتحمل ريحة البحر والرحيل،
بس الأرض الجديدة ما كانتش وطن… كانت "ساحة معركة" بدون نار.
أول ما حطّت رجلها على الأرض، لقت عيون كتير مستنياها.
شباب بلُحى كثيفة، وبنات منقّبات،
وأصوات ولهجات متداخلة… من لبنان وسوريا، من العراق واليمن…
كلهم واقفين في صفوف،
كلهم بيرحبوا بـ "الوافدين الجُدد".
اتقدّم شاب من الشام، ابتسم وقال لعبد الرحمن:
> "أهلًا بيك… وبيها.
القيادة بلغتنا إنكم هتنضموا للمعسكر الخامس.
المجاهدين من كل البلاد هنا… قلوبهم واحدة."
الكاتبة صفاء حسنى
بصت إيمان حواليها،
شافت وشوش كتير، أغلبها صغير…
بس مليانة قناعة، إيمان مش مفهوم، واستعداد للقتل بلا تردّد.
مش قادرة تصدق إن حياة كاملة جديدة قدامها،
وفي نفس الوقت، جواها بنت صغيرة بتصرخ:
"أنا مش المفروض أكون هنا... أنا كنت عاوزة أكمّل دراستي... كنت عاوزة أفرح."
تتبع