رواية اميرة البحر القرمزي (كاملة جميع الفصول) بقلم اسماعيل موسي
في مساء خريفي ثقيل، حين غطّت الغيوم السماء وأحاط الضباب بأطراف القرية، قررت امرأة شابة أن تزور المقابر مع طفلتها الصغيرة، التي لم تتجاوز الخامسة. حملت بيدها باقة ورد ذابلة، وتقدمت وسط صفوف القبور الرطبة، تبحث عن شاهد رخامي قديم لزيارة قريب راحل.
المكان كان صامتًا إلا من حفيف أوراق الأشجار اليابسة وصوت غراب ينعق من بعيد. كل شيء هناك يفيض بالكآبة؛ الجدران المتشققة للمقابر، رائحة العفن والندى، والبرد الذي يتسرب إلى العظام.
بينما هي تضع الزهور عند القبر، ارتجف جسدها فجأة، انحنى رأسها إلى الأمام، وكأن شيئًا خفيًا اخترق صدرها. وقبل أن تدرك الطفلة ما حدث، سقطت الأم على الأرض الباردة بلا حراك، عيناها مفتوحتان على السماء الرمادية، فمها متجمّد في نصف كلمة.
الطفلة جلست بجوار جثمان أمها، تهزها بيدين مرتجفتين، تبكي وتصرخ:
"ماما... قومي... لا تتركيني."
لكن الليل زحف ببطء، وبدأ الضباب يزداد كثافة. لم يجرؤ أحد على دخول المقابر بعد الغروب. بقيت الطفلة وحدها تبكي عند القبر، وصوتها يرتد صداه بين الجدران الحجرية.
ومع اقتراب منتصف الليل، بدأ الهدوء الغريب يخيّم. الريح توقفت، الغربان صمتت. ثم صدر من أحد القبور صوت مختلف، كأنه خشخشة تراب يُزاح ببطء. الطفلة التفتت مذعورة، ودموعها تختلط بالعرق البارد على جبينها.
من بين شقوق أحد القبور، خرجت أيدٍ متشققة، داكنة اللون، باردة كالثلج. أصابعها طويلة، متيبسة، تتحرك ببطء، لكنها ثابتة وكأنها تعرف هدفها.
الطفلة تجمدت في مكانها، شهقتها انقطعت. ثم فجأة، امتدت الأيدي نحوها بسرعة غير متوقعة، أمسكت بساقيها الصغيرتين، وسحبتها بقوة نحو الظلام. صرخت صرخة مدوية اخترقت صمت الليل، لكنها لم تلقَ مجيبًا.
كانت تحاول التشبث بالأرض، أظافرها الصغيرة تحفر في الطين، لكنها لم تستطع مقاومة الجذب. آخر ما رآه القمر قبل أن يغطي الضباب المكان تمامًا، هو جسد طفلة تُبتلع ببطء داخل القبر المفتوح، بينما أصوات همهمة منخفضة، أشبه بالترانيم الميتة، تتعالى من داخله.
وفي الصباح، حين دخل حارس المقبرة ليتفقد المكان، وجد الزهور الذابلة مبعثرة، وجسد المرأة مسجى كما هو... لكن الطفلة لم يكن لها أثر، سوى خطوط صغيرة على التراب، كأنها آخر محاولة للنجاة.
في عتمة القبر، حيث لا يصل ضوء النهار ولا يسمع سوى صدى أنفاسها المرتجفة، بقيت الطفلة حيّة على نحو لا يفسَّر. ظنت في اللحظة الأولى أنها هلكت، لكن الظلام لم يبتلعها تمامًا.
كانت الأرض رطبة، الجدران باردة كالجليد، ورائحة العفن تحاصرها. جلست تبكي أيامًا طويلة حتى جفّ صوتها، وحين أوشكت أن تنهار جوعًا، أحست بشيء غريب يحدث.
من أعماق الظلام، امتدّت يد لم ترها بوضوح. لم تكن يدًا بشرية كما تعرفها، بل كانت ظلالاً متجسدة، تحمل شيئًا غريب المذاق. قطعة طعام داكنة اللون، لا تعرف إن كان خبزًا أم شيئًا آخر، لكنه يملأ معدتها الجائعة.
تكرّر الأمر. كلما بكت من الجوع أو أصابها الضعف، كانت اليد تأتي من حيث لا تدري، تضع أمامها طعامًا وصمتًا، ثم تختفي كأنها لم تكن. لم تستطع أن ترى ملامح صاحبها أبدًا، فقط ظلّ غامق، يشبه الطيف، يمرّ بجانبها ويذوب في الجدران.
الأيام صارت أسابيع، والأسابيع شهورًا. الطفلة فقدت إحساسها بالزمن. لم تعد تعرف الليل من النهار، لم تعد تعرف إن كانت ما تزال بشرًا أو مجرد شيء عالق بين عالم الأحياء والأموات.
لكنها عرفت شيئًا واحدًا:
أنها ليست وحدها.
كانت تسمع همسات أحيانًا، أصواتًا متقطعة لا تفهم كلماتها. أصوات أقرب للأنين والضحك في آن واحد، كأن سكان القبور يتسامرون حولها. كانت تشعر بعيون غير مرئية تراقبها وهي تأكل، وهي تنام، وهي تبكي.
وكلما حاولت أن تسأل الطيف عن هويته، لم يكن يجيب. فقط يترك الطعام ويختفي.
ببطء، بدأ شيء ما يتغير في الطفلة. عيناها تعودتا على الظلام، بشرتها صار لونها أقرب إلى الشحوب الحجري، وصوتها حين تتحدث صار أقرب إلى الهمس البارد.
مرت شهور طويلة، ومعها وُلد في داخلها يقين مخيف: أن الطيف لا يطعمها ليبقيها على قيد الحياة فحسب... بل ليُعدّها لشيء آخر.
القبر الذي سُحبت إليه الطفلة لم يكن قبرًا عاديًا. كان ممرًا عميقًا يهبط كالسلم في بطن الأرض، يمتد لمسافة لا نهاية لها. كلما مشت أكثر داخل الظلام، شعرت أن الهواء يثقل صدرها، وأن الجدران الحجرية تنبض كأنها حيّة.
مرت سنوات وهي تكبر في هذا المكان. في البداية كان خوفها ينهشها، ثم صار جسدها يتكيف مع البرودة والعزلة. عيناها اعتادتا الظلمة، حتى صارت ترى الخيوط الرفيعة للغبار العالق في الهواء، وترى انعكاسات خافتة تتحرك داخل الجدران كأطياف محبوسة.
في أحد الأيام، بعد أن قادها الفضول بعيدًا عن ركنها المعتاد، اكتشفت قاعة غريبة. كانت غرفة واسعة محفورة في الصخر، تمتد جدرانها إلى الأعلى بشكل مقبب، وكأنها معبد مدفون. في وسطها، رفوف خشبية متآكلة تحمل عشرات الكتب القديمة، مجلدات ضخمة مغطاة بالغبار، أوراقها صفراء تفوح منها رائحة الموت والرطوبة.
الكتب لم تكن كأي كتب رأتها من قبل؛ صفحاتها مليئة برموز متشابكة، أشكال لدوائر ووجوه مشوهة، ونصوص بلغة غريبة تنساب كأنها طلاسم. الطفلة لم تكن تعرف القراءة، لكنها أحست أن الرموز تنظر إليها، تتحرك في أطراف بصرها كلما حاولت صرف نظرها عنها.
أيام مرت وهي تزور المكتبة دون أن تفهم، حتى جاء ذلك الطيف القزم.
كان قصير القامة، منحني الظهر، أشبه بظل طفل لكنه مشوه الملامح. لم يتحدث أول الأمر، فقط تبعها بخطوات مترددة، كأنه يخرج من بين الرفوف القديمة. وحين جلست تحدّق في الرموز، جلس بجانبها، وأشار بأصابعه المعوجة إلى الحروف، متمتمًا بأصوات غريبة.
مع مرور الأيام، صار الطيف يقترب أكثر، يكرر الطلاسم بصوت هامس، والطفلة تردد خلفه. شيئًا فشيئًا بدأت تفكك الرموز، تتعلم القراءة بلغة الكتب الملعونة. كان الطيف صبورًا، كأنه جاء لهذا الغرض فقط.
وكلما تعلمت كلمة جديدة، شعرت بحرارة غريبة تسري في جسدها، وبرودة تلف قلبها. أحيانًا، كانت الكتب تصدر أصواتًا خافتة حين تفتحها، كأن الصفحات نفسها تهمس لها.
مرت الشهور، وصارت الطفلة لا تكتفي بالطعام الغامض الذي يُقدَّم لها، بل تغذت على المعرفة السوداء التي انفتحت أمامها. كل كتاب كان يفتح بابًا جديدًا، وكل طقس مكتوب كان يزرع في داخلها يقينًا أن هذا القبر ليس مجرد قبر، بل بوابة إلى شيء أعظم.
والطيف القزم... صار ليس مجرد معلّم، بل رفيق دائم، يضحك بصوت مشروخ كلما نطقت رمزًا صحيحًا، ويختفي حين تخطئ. ومع ذلك، لم يخبرها أبدًا من يكون، فقط يكرر:
"ستعرفين قريبًا... حين تنادينهم بأسمائهم."