رواية اميرة البحر القرمزي الفصل السادس 6 بقلم اسماعيل موسي


 رواية اميرة البحر القرمزي الفصل السادس 6 بقلم اسماعيل موسي


#اميرة_البحر_القرمزى


          ٦


مرّت الأسابيع ثقيلة، لكن شيئًا فشيئًا بدأت الطفلة تتغير. عظامها صارت أصلب، ساعداها يبرزان بعضلات دقيقة لكنها متماسكة، وحركتها لم تعد متعثرة كما في السابق. في البداية كان القزم والجنيات القزمات يظنون أنها مجرد طفلة مثابرة، لكن مع كل يوم جديد كانت مفاجآتها تتضاعف.


في إحدى ساحات التدريب، وقفت الطفلة تمسك سيفها الحجري، تتنفس بعمق، بينما أمامها جنية محاربة قصيرة القامة، معروفة بسرعتها وضرباتها القاسية. الجميع كان يتوقع سقوط الطفلة في دقائق كما المعتاد، لكن المشهد أخذ منحى مختلفًا.


مع أول هجمة من الجنية، انحنت الطفلة بخفة غير معهودة، التفّت حول خصمها بخطوة جانبية حادة، وضربت بسيفها نحو موضع فارغ. حركة لم يعلّمها لها أحد. القزم اتسعت عيناه، والجنيات تبادلن نظرات الارتباك: من أين جاءت بهذه المناورة؟


استمرت المبارزة. الجنية المحاربة صاحت غاضبة وضربت بعنف أكبر، لكن الطفلة امتصّت الضربة على كتفها العاري دون أن تسقط. تراجعت خطوة، ثم تقدمت ثانية، والعرق يتصبب من وجهها، لكن عينيها كانتا تلمعان ببريق صلد، بريق من يتعلم كيف يتحمل الألم.






الجنية المحاربة استشاطت غضبًا، هوت بسيفها في قوس خاطف نحو رأس الطفلة، لكن الأخيرة أمالت جسدها فجأة، وتقدمت بانقضاضة سريعة، دفعت خصمتها للخلف حتى كادت تُسقطها أرضًا.


صرخة اندهاش خرجت من بين شفاه الجنيات. القزم رفع يده دون وعي، كأنه أراد التدخل، ثم توقف مشلولًا بالمفاجأة.


لحظة قصيرة فقط، لكن الطفلة كانت على وشك أن تُسقط الجنية المحاربة أرضًا، على وشك أن تنتصر.


توقف التدريب قبل أن تحسم الضربة الأخيرة، لكن وقع الصدى ظلّ في المكان: الطفلة لم تعد مجرد متدربة ضعيفة… لقد صارت شيئًا آخر، شيئًا لم يتوقعه أحد.


---


توالت الأيام، وكل يوم كانت الطفلة تدخل ساحة التدريب بخطوات أكثر ثباتًا. السيف الحجري الذي كان يسقط من يديها بسهولة صار كجزء من ذراعها، يلمع تحت الأضواء الغريبة كأنه يستجيب لها وحدها.


الجنيات المحاربات بدأن ينظرن إليها بنظرة مختلفة، لم تعد مجرد طفلة ضعيفة يُتسامح مع هفواتها، بل خصم حقيقي يجب الحذر منه. وفي أول نزال فردي حقيقي، وقفت الطفلة أمام جنية سمراء البشرة، معروفة بقوة معصميها وسرعة دورانها في القتال.


الهجمة الأولى كانت عاصفة، لكن الطفلة صدّت الضربة، وبدل أن تتراجع، اندفعت بجسدها للأمام، دفعت خصمتها خطوة إلى الوراء. العرق انهمر على وجوه المتدربين، لكن الطفلة واصلت، كل ضربة تتبعها بخطوة واثقة، حتى وجدت نفسها تضرب صدر خصمتها ضربة نظيفة أجبرتها على السقوط أرضًا.


ارتفعت همهمة الدهشة. القزم نفسه صمت طويلًا قبل أن يصفق بيده الصغيرة تصفيقًا متوترًا.


لم يتوقف الأمر عند نزال واحد. في اليوم التالي، واجهت جنية أخرى، مشهورة بخداعها وحيلها. لكن الطفلة قرأت خطواتها كما لو كانت تراها قبل وقوعها، وتفادت الحركات المضللة بسهولة مريبة، ثم وجهت ضربة مفاجئة كسرت توازن خصمتها، وأسقطتها على الأرض وسط ذهول الجميع.


المرة الثالثة، كانت الأصعب. جنية ذات خبرة طويلة، ندوبها تشهد على معارك كثيرة، وقلبها لا يعرف التردد. النزال استمر طويلًا، الطفلة تُضرب وتتعثر، لكنها لا تسقط. كل مرة تنهض، عينيها تزدادان صلابة، حتى جاءتها لحظة انقضت فيها كالصاعقة، ووجهت ضربة حاسمة أطاحت بالسيف من يد المحاربة نفسها.


صمتٌ ثقيل خيّم على المكان. لم يتوقع أحد أن يراها تنتصر، ليس مرة، بل ثلاثًا متتالية.


الطفلة وقفت وسط الساحة، صدرها يتنفس بحرارة، عرقها يلمع على جبينها، والسيف مرفوع في يدها. لأول مرة، لم تكن مجرد متدربة بين الجنيات… بل صارت محاربة حقيقية.


لم تعد الانتصارات مجرد لحظات عابرة في ساحة التدريب… صارت كالدم الذي يجري في عروق الطفلة. في كل مرة تُسقط خصمًا أرضًا، كانت تشعر بشيء غريب يتغلغل داخلها، دفء ثقيل، كأن الانتصار نفسه يتحول إلى طاقة خام تندمج بروحها. ومع كل انتصار جديد، كانت خطواتها تصبح أثقل وقعًا، وسيفها أكثر خفة في يديها، وعينيها أكثر بريقًا… بريق محاربة حقيقية.


لم تعد الجنيات المحاربات ينظرن إليها باستعلاء أو شفقة، بل كخصم خطر. بعضهن بدا عليه التردد وهو يدخل الساحة معها. لكن الطفلة لم تتراجع أبدًا، بل كلما انتصرت، رفعت رأسها أعلى، وكأنها تزداد طولًا وهي ما زالت صغيرة.






وفي إحدى الأمسيات، حين اجتمع القزم والجنيات لمبارزة جديدة، وقفت الطفلة في منتصف الساحة، رفعت سيفها وقالت بصوت لم يكن فيه تردد:

ــ "لم أعد أريد نزالًا فرديًا… أريدكن جميعًا."


ساد صمت ثقيل. الجنيات تبادلن نظرات الاستغراب والرفض، لكن الطفلة لم تخفض سيفها. عندها، بإشارة من القزم الذي بدا مضطربًا لكنه عاجز عن الرفض، تقدمت ثلاث جنّيات محاربات دفعة واحدة.


بدأ النزال. الجنيات هاجمنها من جهات مختلفة، لكن الطفلة لم ترهَب. أغمضت عينيها فجأة، كما علمتها الجرادة العمياء. القتال بلا عيون.


التقطت أصوات أقدامهن على الأرض، همسات الهواء حين يقطع السيف مساره، حتى نَفَس خصمها وهي تهجم. تحركت بخفة غريبة، انحنت لتفادي ضربة جاءت من الخلف، ثم استدارت ووجهت سيفها نحو مصدر الاهتزاز على يمينها. ضربة أولى أسقطت سلاح جنية.


صرخة دهشة دوّت في القاعة.


الثانية هاجمتها بغضب، لكن الطفلة التصقت بالأرض، سحبت قدم خصمتها بحركة مباغتة، وأسقطتها في الوحل الذي كان يغطي جزءًا من الساحة. الثالثة وجدت نفسها وحيدة أمام طفلة بعيون مغلقة، تبتسم ابتسامة صغيرة، وتركض نحوها بسرعة لم تكن تتوقعها. سيف الطفلة ارتطم بسيفها، ضغطت بيديها بكل ما أوتيت من قوة، حتى تهاوى السيف من يد الجنية الأخيرة.


سقطت الجنيات الثلاث أرضًا، والساحة امتلأت بصدى أنفاسهن المرهقة، بينما الطفلة وقفت وسطهن، عيناها لا تزالان مغلقتين، والسيف مرفوع أمام صدرها.


حين فتحت عينيها أخيرًا، كان في بؤبؤيهما بريق غامض… خليط من العناد والنشوة، وكأن الانتصارات لم تعد تدريبًا، بل غذاءً حقيقيًا لجسدها وروحها.


الجنيات تراجعن في صمت، والقزم ابتلع ريقه، غير قادر على تفسير ما رآه. أمّا الطفلة، فكانت تعرف في أعماقها أنها لم تعد بحاجة للرحمة… بل للقوة فقط.


حين خبت ضوضاء النزال مع الجنيات المحاربات، عمّ القبو صمت ثقيل، لم يقطعه سوى صدى أنفاس الطفلة المتقطعة. كانت تقف وسط الساحة منتصبة، وعلى شفتيها ابتسامة متعجرفة لا تخطئها العين. لكن من الظلال البعيدة، ارتفع صوت ناعم، عميق، يحمل تهكمًا بارزًا:


ــ "غرور مبكر… لا يليق إلا بمن لم يذق بعد طعم القوة الحقيقية."


من العتمة تقدمت الجنية الأم. كانت أطول قامة من كل الجنيات، على كتفيها وشاح أسود منسوج بخيوط فضية، وفي يديها سيف هائل، يكاد حجمه يوازي جسد الطفلة كله. لمع بريقه كأنه مقطوع من صخرة البرق نفسها.


خطت الأم إلى وسط الساحة، ورفعت السيف بخفة لا تتناسب مع وزنه، ثم أشارت به نحو الطفلة:

ــ "ظننتِ أنكِ بلغتِ المجد؟ أن الانتصار على مدرباتكِ يجعلكِ سيدة بيننا؟" ابتسمت بسخرية، عينها تلمع باحتقار. "القوة ليست في سحق من يدربك، بل في احترام من علمك. أما أنتِ… فما زلتِ تلميذة متمردة."


ارتجفت الطفلة، لكن بدلاً من أن تخفض رأسها كما اعتادت دومًا، عضّت على شفتها وأمسكت سيفها بكلتا يديها. لأول مرة في حياتها، واجهت أمها لا كتلميذة، بل كخصم.

ــ "لن أنحني بعد الآن."


اندفعت بكل قوتها، تقاتل كما لم تقاتل من قبل، جسدها الصغير ينساب بين ضربات السيف الضخم، تستخدم كل ما تعلمته: الانزلاق في الوحل، الوثب على الصخور، تكتيك العين المغلقة. كانت حركاتها سلسلة، متدفقة، كأنها صدى كل منازلة سابقة.


لكن الأم لم تتحرك إلا بابتسامة ساخرة. كانت تتصدى لهجماتها بسهولة، وكأنها تلاعب طفلة بسكين خشبي. وفي لحظة، توقفت، اقتربت منها حتى شعرت الطفلة بأنفاسها على أذنها، وهمست بنبرة باردة:

ــ "أنت ضعيفة… يا فتاة ضعيفة."


كأن الهمس اخترق قلب الطفلة. ارتج جسدها كله، اشتعلت عروقها بنار غريبة، وأغمضت عينيها فجأة. قبضت على سيفها بكل قوتها، وصرخت صرخة مدوية وهي تهوي بضربة واحدة.


ارتطم الحديد بالأرض، فانفجرت الساحة تحت قدميها، واهتز القبو بأكمله ارتجافًا عنيفًا، كأن الأرض نفسها استجابت لغضبها.






توقف الزمن لوهلة. الغبار ملأ الأرجاء، والصدع العميق الذي انشقّ في الأرض بقي شاهدًا على الضربة.


وبين الصمت المهيب الذي تلا الانفجار، أدركت الجنيات جميعًا أن الطفلة لم تعد مجرد متدربة… لقد امتلكت قوة خارقة، قوة غريبة تمنحها مع كل خصم تهزمه جزءًا من قوته.


وهكذا انتهى النزال عند تلك اللحظة… معلّقًا بين دهشة الأم وصخب القوة الجديدة التي استيقظت في قلب ابنتها.


بعد أن هدأ الغبار وتلاشت رجّة القبو، ظلت الجنية الأم واقفة تتأمل الصدع في الأرض بعينين جامدتين. لم تقل كلمة واحدة، لكن ابتسامة ساخرة خبت من وجهها ببطء، وحلّ محلها صمت متأمل. حولها، وقف القزم وبقية الجنيات المحاربات مذهولين من الضربة الأخيرة، كأنهم لا يصدقون أن الطفلة الصغيرة بينهم هي من فجّرت تلك القوة.


ثم فجأة، التفتت الأم نحو الجميع، وصوتها يجلجل بصرامة قاطعة:

ــ "لقد حان الوقت. لم يعد يكفي أن تبقى هذه الفتاة حبيسة القبو وظلال التدريب. ستخرج… وستُختبر أمام أعين المملكة بأسرها."


ارتفع همس الجنيات، وتبادل القزم النظرات الحذرة معهن، لكنه لم يجرؤ على الاعتراض. الأم رفعت سيفها الضخم ولوّحت به في الهواء، فتشتّت الغبار كأن الأوامر صارت واقعًا لا نقاش فيه.


ــ "غدًا، نخرج إلى أرض الجان. سيُفتح باب القصر الكبير، وتبدأ احتفالات المملكة. وستدخل هذه الطفلة، رغم صغرها، مسابقة الشابات المحاربات. أمام الملكة، وأمام كل الأعين."


تراجعت الجنيات في رهبة، لكن أعينهن كانت تشتعل بفضولٍ غامض. أي مصير ينتظر هذه الصغيرة إن تعثرت هناك؟ وأي مكان ستناله إن أثبتت نفسها؟


أما الطفلة، فشعرت لأول مرة أن جدران القبو التي سجنتها لسنوات قد انكسرت. قلبها يخفق بعنف، نصفه خوف ونصفه نشوة. كانت كلمات الأم كالمرآة: تهديدًا واختبارًا في آن واحد.


في تلك الليلة، ظلّت تتقلب على سريرها الحجري، تفكر في الغد. هل ستكون الاحتفالات بداية تحررها، أم بداية سقوطها أمام الجميع؟

لكن شيئًا واحدًا كانت متأكدة منه: أن ما يربطها بالسيف لم يعد تدريبًا، بل مصيرًا.


               الفصل السابع من هنا 

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×